ذكرى تعريب قيادة الجيش العربي الأردني

mainThumb

29-02-2016 12:10 PM

السوسنة - تعريب قيادة الجيش العربي قرار سيادي أردني نبع من قيادة حكيمة وضعت الأردن وقواته المسلحة في ذروة التوهج والصدارة القرار صيحة هاشمية أعادت للأمة ألقها ومجدها وكرامتها وأنارت للجيش العربي دروب المستقبل الواعد بالخير والعطاء الموصول عمان 29 شباط (بترا) - إعداد مديرية التوجيه المعنوي- الأول من آذار يوم مجيد من أيام الوطن العابقة بالمجد والسؤدد، فيه تحملنا ذاكرة الوطن وأيامه الخالدة إلى عقود ستة مضت، حفلت بمحطات فخار عنوانها تطور الجيش العربي، حيث تتزامن هذه الذكرى لهذا العام مع ذكرى ترتبط ارتباطا عضويا بهذا الجيش، وهي الذكرى المئوية الأولى لانطلاقة ثورة العرب الكبرى، وانبعاث مشروعها النهضَوي على يد المنقذ الأعظم الشريف الحسين بن علي طيب الله ثراه.
 
 
كان الأول من آذار لعام 1956، مرحلة تاريخية هامة وانطلاقة واضحة المعالم في تاريخ هذا الجيش، ففي هذا اليوم اتّخذ جلالة الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه، قراره القومي والتاريخي بتعريب قيادة الجيش العربي، حيث دوى صوت الحسين بنبراته القوية التي تعودنا عليها، ليعيد للوطن مجدا فوق ما له من مجد، وليضيف صفحة ناصعة للتاريخ الأردني العابق بالكرامة والحرية.
 
 
لقد مثلت خطوة تعريب قيادة الجيش العربي الأردني، محطة مفصلية في حياة الأردن والقوات المسلحة، حينما أقدم جلالة المغفور له الملك الحسين طيب الله ثراه، على اتخاذ هذا القرار الوطني والقومي الجريء، وذلك بإعفاء الجنرال كلوب من منصبه، وتعيين ضابط أردني قائداً للجيش، ليكون جيشاً عربياً هاشمياً واسما على مسمى.
 
 
لقد نبع هذا القرار وتلك الخطوة الجريئة من قيادة وعت حجم المسؤولية وكانت على قدر حملها، حيث جاء قرار الحسين، وجلالته في ريعان شبابه، حيث لم تمض سوى فترة قصيرة على تسلم جلالته سلطاته الدستورية، فجاء القرار تجسيداً حياً لكل التطلعات الكبيرة التي كانت تجول في قلب وعقل الملك الشاب، وتمنحه القوة والعزم والتصميم على استكمال تحرير الإرادة الوطنية بالانعتاق النهائي من هيمنة الأجنبي ونفوذه، الأمر الذي جعل من هذا القرار بداية لسلسلة طويلة من التطورات الوطنية الكبيرة التي تشكل في مجملها الملامح الأساسية لمسيرة الأردن القومية.
 
 
لم يكن اتخاذ قرار تعريب قيادة الجيش بالأمر السهل أو المألوف، فهو قرار يحتاج إلى قائد فذ بطل لا يضع نصب عينيه إلا حاضر وطنه ومستقبل شعبه وأمته، المستند أساسا إلى إرث تاريخي متجذر في وجدان القائد، فشكل هذا القرار محطة بارزة في نهج ومسيرة تحديث الدولة التي سارت بخطى واسعة نحو إتمام معاني الاستقلال والقرار السيادي الأردني، وإعطاء الجيش العربي حرية اتخاذ قراره وتأهيل كوادره وتسليحه، والتفكير الواقعي بأولوياته وما هو مطلوب منه في المراحل اللاحقة.
 
 
طموحات ملك شاب: لقد جاء قرار تعريب قيادة الجيش منسجماً وملبياً لطموحات الملك الشاب، الذي كان يدور في خلده منذ كان طالباً في كلية ساند هيرست، أن الجيش العربي تحت قيادة غير عربية سيبقى دون طموحات قيادته العليا، التي تريده أن يؤدي دوره في حماية الوطن وتأهيل ضباطه وتحقيق أهدافه التي وجد من أجلها، وصون ممتلكاته ومنجزات استقلاله، ومنع المعتدين أياً كانوا من النيل من سيادته على ترابه الوطني.
 
 
ويقول جلالة المغفور له عن تلك الخطوة في كتاب مهنتي كملك "لقد كنت مصمماً على إنشاء جيش قوي متوازن يدعمه غطاء جوي هام، وقد كان تحقيق ذلك مستحيلا ما دام كلوب بيننا، فكان علي إذن أن أنفصل عنه".
 
 
وصلت علاقات جلالة المغفور له الملك الحسين طيب الله ثراه في مطلع عام 1956 بكلوب إلى نقطة اللاعودة، فكان الحديث عن استبداله هاجساً متكرراً في فكر جلالته، حيث اتُّخذ القرار دون علم أي من المقربين إليه، وقد ذكر أسباب قيامه باتخاذ هذا القرار وإصراره على تنفيذه فوراً في كتاب مهنتي كملك حيث قال "يجهل الرأي العام عموماً أن عزل كلوب كان قضية أردنية تماماً، لقد كان السبب الرئيسي في عزله يقوم على عدم التفاهم بيننا، وعلى خلافنا حول مسألتين جوهريتين هما: دور الضباط العرب في جيشنا، واستراتيجيتنا الدفاعية، فأحد واجباتي كملك هو تحقيق الأمن لشعبي وبلادي، ولو لم أقم باستبداله لما كنت قد مارست أعباء مسؤولياتي".
 
 
ويضيف طيب الله ثراه قائلاً، "لقد طلبت مراراً من الإنجليز أن يدربوا مزيداً من الضباط الأردنيين القادرين على الارتقاء إلى الرتب العليا، وكان البريطانيون يتجاهلون مطالبي، كان أعلى منصب يستطيع أن يطمح فيه الأردنيون هو منصب قائد سرية ولا شيء أكثر من ذلك، بعد أشهر من المفاوضات اتسمت بالصبر والأناة أستجيب الى طلبي، وذلك بقبول إنكلترا أن تفرض علينا خطة للتعريب يتم بمقتضاها منح الضباط الأردنيين في المستقبل مزيداً من الامتيازات، لقد كانت كلمة المستقبل تعني للإنجليز، وقد أبلغوني بذلك رسمياً، بأن سلاح الهندسة الملكي في الجيش العربي الأردني سوف يتولى قيادته ضابط عربي في عام 1985، وتقول حكومة بريطانيا إنها سوف تتحدث عن التعريب بعد ثلاثين سنة".
 
 
قائد فذ وحكيم رأى وضع الأمور على مسارها الصحيح، فنفذ في الأول من آذار عام 1956 قراره القومي والتاريخي بتعريب قيادة الجيش العربي، وتحريره من قيادته الأجنبية، وأيقن أنه في الوضع السياسي الجديد الذي أوجده قيام إسرائيل كان لا بد من إعطاء الجيش إحساساً بالمسؤولية والكبرياء، ووفقاً لذلك فقد أعفى الفريق كلوب من منصبه، وعيَّن ضباطا أردنيين في جميع المراكز القيادية.
 
 
 
 
تداعيات قرار تعريب الجيش العربي على المستوى الدولي في بريطانيا جاء ذلك على لسان جيمس لنت في كتابه الحسين حياة ومسيرة حيث يقول: "كانت ردة الفعل في بريطانيا على طرد كلوب صاخبة وهو ما أدهش الحسين الذي مارس حقاً من حقوقه الدستورية".
 
وكتبت جريدة (نيوز كرونيكل) عن هذا الحدث واعتبرته فشلاً نتيجة تجاهل بريطانيا لطموح شعوب الشرق الأوسط.
 
وفي الولايات المتحدة قال الرئيس الأميركي آيزنهاور لجلالة الملك رحمه الله "إنك بطل والبطولة ليست ملك شعبك بل هي للعالم".
 
وفي الاتحاد السوفيتي وصفت جريدة البرافدا السوفيتية نبأ عزل كلوب بأنه "انتصار كبير للشعب الأردني في نضاله من أجل التحرر من السيطرة الأجنبية".
 
وكتبت جريدة الشعب الصينية بأنه "بمثابة نصر جديد للأردنيين في نضالهم ضد ميثاق بغداد وان إقصاء كلوب كان أمراً لا بد منه ليتاح للأردن الدفاع عن سيادته".
 
أما على المستوى العربي فقد جاءت ردود الفعل مؤيدة ومشجعة تحمل الفرح والسرور بقرار الملك الشاب الذي حير العالم كله، حيث كتبت جريدة الجمهورية المصرية يوم 4 آذار 1956 مقالاً تحت عنوان: (سلمت يداك يا حسين) جاء فيه " لقد خفقت قلوب العرب جميعاً لقرارك بالأمس يا حسين، الذي بعث القوة في وطن العرب من مشرقه إلى مغربه، فليس سراً أن كل عربي كان يتأذى من هذا الوضع الذي يجعل قيادة جيش عربي في يد غير عربي، في الوقت الذي نؤمن فيه جميعاً نحن العرب بإخلاص هذا الجيش وثقافته في عروبته، ونؤمن أيضاً بكفاءته وغيرته، لقد أرضى قرارك يا حسين كبرياء العرب وطموحاتهم، وحقق آمالهم وأمانيهم، إن خمسة وأربعين مليون عربي يشدون على يديك يا حسين عملاً وقولاً.. فسر على بركة الله أيها الملك وسيؤيدك الله بنصره".
 
أما جريدة الجنار، فقد نشرت في عددها الصادر يوم 6 آذار 1956 مقالاً تحت عنوان (حول إقالة كلوب) قالت فيه: "اهتزت دنيا العروبة والإسلام لنبأ إقالة الجنرال كلوب رئيس أركان حرب الجيش العربي الأردني وصفقت كثيراً فرحاً وسروراً رغم تخرص المتخرصين وتقوّل الأفاكين".
 
لقد فتح قرار تعريب قيادة الجيش العربي الباب على مصراعيه لسلسلة من الأحداث المهمة جرت بنفس العام، وكأن العرب كانوا ينتظرون مثل هذا القرار الجبار بفارغ الصبر منها: 1. في الثاني عشر من آذار 1956، بعث رؤساء دول السعودية ومصر وسوريا رسالة مشتركة الى جلالة الملك الحسين، يؤكدون فيها استعداد دولهم تقديم معونة مادية للأردن بدلاً من المعونة البريطانية.
 
2. في أوائل شهر نيسان 1956، زار جلالته دمشق تلبية لدعوة من الرئيس شكري القوتلي، فاستقبل استقبالاً منقطع النظير في سوريا، وتضمن البيان المشترك بعد المحادثات اتفاق سوريا والأردن على تنسيق خطط الدفاع والتعاون العسكري بينهما وعلى عدم الانضمام إلى أية أحلاف.
 
3. قام الرئيس شكري القوتلي بزيارة إلى الأردن في أواخر شهر أيار 1956، رداً على زيارة جلالته صدر على أثرها بيان مشترك جاء فيه: "إقرار اتفاقية عسكرية لمواجهة الخطر الصهيوني ورفع درجة التمثيل الدبلوماسي معها إلى رتبة سفير، وإقرار مبادئ الوحدة الاقتصادية والجمركية بين البلدين.. الخ".
 
4. قام جلالته بإيفاد البعثات العسكرية الى جميع البلاد العربية المجاورة، سعياً منه إلى عقد اتفاقيات لتوثيق التعاون العسكري بين الأردن وتلك الدول وكانت نتيجة هذه المساعي عقد اتفاقيات عسكرية مع لبنان والعراق، السعودية ومصر.
 
نتائج تعريب قيادة الجيش العربي: لقد كان قرار الحسين هذا، خطوة على المسار الصحيح لاستقلال الأردن من النفوذ الأجنبي، ونقطة تحول هامة في تاريخ العرب الحديث، ودافعاً قوياً للأردن للدفاع عن استقلاله وكرامته وحريته، وقد أتاح هذا القرار للأردن بسط سيادته السياسية على كل إقليم الدولة ومؤسساتها، وأعاد الهيبة للجيش والأمة بامتلاك حريتها وصنع قرارها بعيداً عن التهديدات والضغوطات التي كانت تمارس بحقها، وأعطى الفرصة لأبناء الوطن لتولي المسؤولية والتدرب على القيادة العسكرية وخلق القادة من أبناء الأردن.
 
كما أدت خطوة تعريب قيادة الجيش، إلى توظيف كافة قدرات الجيش وإمكانياته لخدمة أمن الوطن، وصون حقوقه والمحافظة على ترابه ومكتسباته، كما مكن القرار صانعه جلالة المغفور له الملك الحسين من بناء مؤسسة عسكرية حديثة، امتازت بالانضباط ومشاركة القوات المسلحة- الجيش العربي بالخطط التنموية وبناء الوطن، والمشاركة الفاعلة لجيشه في رفد مسيرة البناء والعطاء.
 
هذا الجيش الذي ساهم في استقرار الكثير من الدول العربية، وتمكن من بناء الروابط القوية مع جيوش المنطقة من خلال تبادل الخبرات، وفتح مدارس التدريب لكافة الصنوف والمعاهد العسكرية العليا التي أهلت ضباط وأفراد هذا الجيش ليكونوا في الطليعة كما أرادهم الحسين يرحمه الله.
 
واليوم وبعد مضي ستين عاما على هذا القرار التاريخي، يمضي مليكنا المفدى جلالة الملك عبدالله الثاني على خطى الملك الباني يرحمه الله، في تأهيل وتدريب وتسليح القوات المسلحة، حتى غدت أنموذجاً في المنطقة والعالم، ومثالاً بين جيوش العالم في احترافيتها وانضباطها وقوتها، تحمل رسالة الثورة العربية الكبرى، وتدفع العاديات عن وطننا وتضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه المساس بأمنها وأمانها، وسكن هذا الجيش في قلوب الأردنيين وكل أرض حل عليها وارتحل، يرسم الابتسامة على وجوه من شردتهم الكوارث والحروب، وقدم مواكب الشهداء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فنالوا إحدى الحسنيين، ورووا بنجيع دمائهم الزكية أرض فلسطين، وها هم اليوم يسجلون للعرب مسلمين ومسيحيين صدق قوميتهم وعروبتهم ورسالة إسلامهم السمحة، في التعامل مع الأشقاء الذين ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت من تشريد وتدمير وقتل ودماء تراق وبيوت تتهدم، فكانوا الأيادي التي تمتد لنصرة إخوة لهم، بعدت المسافات بينهم أم قربت، وكانوا البواسل الحاملين لنبض الوطن في قلوبهم وعشقه المتجذر في وجدانهم.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد