مارك بلوخ يُحكِّم ضميره

mainThumb

22-04-2025 01:43 AM

إذا كان تمثيل الواقع الموضوعي يقتضي انعكاس الأحداث انعكاسا موضوعيا، وكان تمثيل الوقائع التأريخية يتطلب توثيقا، وتمثيل التاريخ يحتاج متخيلا، فإن تمثيل ما هو تسجيلي يتطلب استثمارا لكل من الواقعي والتأريخي عبر الجمع بين الانعكاس والتوثيق. وإذ تهتم الرواية الواقعية بما هو تأريخي، فإن الرواية التسجيلية تهتم بما هو تأريخي وواقعي معا؛ فالواقعة المسجلة موضوعية لأنها تعتمد على الوثيقة، ولكن الحاضر في حالة امتداد مع الماضي المنصرم، أي القريب وقد يخضع للشروط الذاتية الأوتوبوغرافية في أحيان كثيرة. ولعل هذا هو السر وراء قلة كتابة الرواية التسجيلية مقارنة بالأنواع الروائية الأخرى.
إن هذا الجمع بين التأريخي والواقعي يتضح في كتاب المؤرخ الفرنسي مارك بلوخ «الهزيمة الغريبة» بسبب ما فيه من توظيف مقصود للزمان التأريخي في تسريد وقائع الحرب العالمية الثانية، وتحديدا أحداث عام 1940. وكان بلوخ قد خدم في الجيش الفرنسي بصفة جندي في سلاح المشاة أبان الحرب العالمية الأولى، ثم ترقى إلى رتبة رئيس حظيرة وضابط استخبارات ثم صار في عام 1940 مساعدا لقائد الفيلق برتبة نقيب. فسجَّل تجربته التي انطوت على كثير من التنوع.
وعلى الرغم من أنَّ السرد يجري بضمير الأنا على لسان بلوخ، فإن كتاب «الهزيمة الغريبة» ليس سيرة ذاتية لسبب جوهري هو أن الميثاق السيري يقتضي من الذاكرة أداء دورها الاستعادي، أو كما يقول فيليب لوجون (حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، عندما يركِّز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة) في حين تتناوب الذاكرة في كتاب «الهزيمة الغريبة» على تأدية فعلين؛ الأول استعادي/ وقائعي والآخر استدعائي/ واقعي. وهذا ما يجعل الذات معبِّرة عن الوجود العام، مسجِّلة الواقعة تسجيلا تأريخيا بالاعتماد على الذاكرة والوثيقة معا.
وإذ يسرد بلوخ مشاهداته الذاتية بضمير الأنا، فإن الواقعة لا تمثل تاريخه الشخصي، وإنما تاريخ أمة بكاملها (لا أدري ما إذا كانت هذه الصفحات ستنشر يوما، إذ من المحتمل في أي حال أنه ولمدة طويلة لن يطلع عليها خارج محيطي الخاص إلا سرا وبحذر، لكنني على الرغم من ذلك قررت أن أدوّنها. إن الغشاوة التي تغطي أفظع انهيار شهده تاريخنا، والتي تُراكِم كماً من الجهل أحيانا، ومن سوء النية أحيانا أخرى، ستتبدد تدريجيا وربما سيتمكن الباحثون من إيجاد بعض الفائدة، إن أحسنوا التنقيب في مراجعة بعض صفحات التقرير، الذي وضع في عام 1940.. ولأنه لا بد للشاهد من الإدلاء بإفادة شخصية فمن الضروري قبل أن أعمد إلى سردها أن أحدد المنظار الذي به شاهدت الأمور). بهذا يكون بلوخ هو الشاهد الذي راقب، فنقل الأحداث من منظور أخلاقي، معتمدا وهو يسجل الواقعة على الاستشهاد بالوثائق، أيا كانت شخصية أو عامة، رسمية أو غير رسمية. ولأن بلوخ مؤرخ بارع وهو الذي درَّس التاريخ مدة 34 عاما، نجح في معرفة الكيفية التي بها يوظِّف الملاحظة، مع إمعانه النظر في رصد الحقائق انطلاقا من زاوية نظر اعتبارية، وهو الذي من شدة حبه للحقيقة، أوصى بأن تُنقش على قبره جملة (كان يعشق الحقيقة).
ومن تجليات هذه الرؤية، أن بلوخ لا يؤمن بوجود أعراق نقية، وأن اليهودية ليست مذهبا دينيا، وإنما هي سمة عرقية (والسمات العرقية ليست سوى وهم، وأن مفهوم السلالة النقية هو سخف صريح للغاية، حينما يطلق على ما كان يمثل في الواقع مجموعة من المؤمنين، الذين تم جمعهم في الماضي من جميع أنحاء العالم المتوسطي والتركي الخزري والسلافي. وأنا لا استدعي أصولي اليهودية، إلا في حالة واحدة فقط حين يتعلق الأمر بمواجهة شخص معاد للسامية). ومن التجليات أيضا أن انتماءه لبلده فرنسا هو الانتماء الأوحد وتعلقه بوطنه يتجاوز أي هوى آخر (من المستحيل أن أحبذ أي دعوة تشير إلى انتمائي إلى مذهب ديني مستقيم، لا اعترف بتعاليمه لقد شعرت طوال حياتي بأنني بعيد من كل انتماء طائفي رسمي، أو ما يدعى تضامنا).
وعلى الرغم من تقدم بلوخ في العمر وضغوط الخدمة العسكرية وخيبة الأمل وثقل الهزيمة، فإن ذلك لم يحل دون أن يفخر بانتمائه إلى صفوف الجيش الفرنسي، فسجَّل كثيرا من المواقف، ووثقها باليوم والشهر والسنة. وخصص لشهر مايو/ أيار وحده سردا تفصيليا، وحدده بالأيام من 19 إلى 31 . وانتقل في الفصل الثاني إلى تقديم شهادة جندي مهزوم لا يملك الوثائق المطلوبة (يروى أن هتلر كان يحيط نفسه قبل وضع خططه القتالية بخبراء في علم النفس، لا أعرف ما إذا كان ذلك صحيحا لكنه أمر غير مستغرب) ليعود بعد ذلك إلى توثيق الأشهر وصولا إلى شهر سبتمبر/ أيلول 1940).
وركَّز بلوخ في الفصل الثالث المعنون (فرنسي يفحص ضميره) على ما هو تاريخي في تسجيل أحداث الواقعة (سأضطر كفرنسي إلى الحديث عن بلدي، في حين أنه ليس كله جيدا، ومن الصعب التحري عن نقاط ضعف الوطن الأم المفجوع. وكوني مؤرخا يتيح لي أن أدرك أفضل من أي شخص آخر صعوبات تحليل يقتضي العودة إلى تشعبات سببية قديمة جدا وشديدة التعقيد).
لقد كان بلوخ شديد الإحساس بهذه الوقائع، وهو ينتمي إلى جيل يؤنبه ضميره باستمرار. جيل خرج من الحرب مرهقا، يعاني من البطالة وفي الوقت نفسه يريد على جناح السرعة تعويض الوقت الضائع (تلك كانت أعذارنا ولكنني ما عدت اعتقد ومنذ مدة طويلة أنها تكفي لإعفائنا من المسؤولية). لقد وجَّه بلوخ سرده التسجيلي نحو ما ينتاب الضمير الجمعي من إحساس بالخيبة والإحباط والهزيمة. وبسبب هذا التوجه أخذت عملية التوثيق التأريخي تتضاءل تدريجيا في كتاب «الهزيمة الغريبة» مقابل تصاعد همة السارد الذاتي في المراقبة والرصد الانعكاسي (أنا لا أسترسل في الحديث عن وخز الضمير، وكأني أستلذ بهذا الإحباط الذي يتملكني. لقد علَّمتني التجربة أنّ الاعتراف بالخطيئة لا يجعلها أقل عبئا على المرء، بل يأخذني التفكير إلى أولئك الذين سيقرأون هذه الصفحات، أي أبنائي بالتأكيد وآخرين غيرهم، وربما بعض الشباب يوما ما. لذلك أطلب منهم التفكير في أخطاء من سبقوهم.. المهم في الأمر أن يدركوا هذه الأخطاء ليتجنبوها).
هذا المنظور الأخلاقي هو المقصد من وراء تأليف كتاب «الهزيمة الغريبة» بصفته رواية تسجيلية. وليس هذا الكتاب وحده الذي يُنظر إليه في الغالب على أنه كتاب مذكرات أو كتاب تاريخي، بل هناك أعمال كثيرة كُتبت في القرنين التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وتعد تاريخية مع أنها تتخذ من التسجيل محورا لها.

كاتبة عراقية






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد