الأرشيف المنهوب .. من أرسطو إلى المعري وديستوفسكي

mainThumb

16-04-2025 03:08 PM

تعج مواقع التواصل الاجتماعي بمقولات واقتباسات ومقاطع شعرية تنسب، دون تدقيق، إلى مفكرين وفلاسفة وأدباء، وهي في غالبيتها خاطئة أو مبتورة أو محوّرة، فضلا عن عبارات مستلة من حوارات لشخصيات في قصة قصيرة أو رواية أو مسرحية، تقدم على أنها لمؤلف العمل، فنكون، والحال كذلك، إزاء "فوضى غير خلاقة"، إذ ينطق تولستوي بلسان إقطاعي، وتصرخ أغاثا كريستي بمقطع حواري غاضب لـ"قاتل متسلسل"، فيما يهذي شكسبير بخواطر غزلية نطق بها روميو، بطل مسرحيته "روميو وجولييت".
وفي جولة سريعة على تلك المواقع سنعثر على مئات الأقوال المنسوبة لكتاب وفلاسفة من مشارق الأرض ومغاربها، وممن ينتمون لعصور مختلفة تبدأ من سقراط وأرسطو وهوميروس والمعري ولا تنتهي عند همنغواي وديستوفسكي وفيكتور هيغو وآينشتاين ونيتشه ومحمود درويش وبابلو نيرودا... ولا رابط بين هذه "الوليمة الابداعية" المفبركة سوى الفضاء الافتراضي "المشاع"، واندفاع رواد مواقع التواصل لاستعراض عضلاتهم الثقافية والفكرية أمام متابعيهم، وإضفاء بعض الجاذبية على المحتوى الذي يصنعونه، بقصد الحصول على اللايكات والتعليقات.
وبالمناسبة، فإن "صانع المحتوى" هو تعبير جديد تسلل إلى القاموس الثقافي المعاصر، ليشير إلى أولئك الذين لا يملكون أي رصيد معرفي، و يهرفون بما لا يعرفون، فالمقياس الوحيد لتميز "صانع المحتوى" هو عدد اللايكات والمشاركات.
ومن المعلوم أن إعجاب العدد الهائل بمحتوى ما، لا يعكس عمق الفكرة، بل ربما العكس هو الصحيح تماما، وهو ما يوضحه المفكر الكندي آلان دونو في كتابه "نظام التفاهة"، إذ يقول "ليس من الضروري كي تكون "فنّانا" أن تمتلك حيثيات ومهارات معينة، وأن يكون عندك رسالة لتؤديها أو كلمة نافعة لتقولها... قل أسخف السخافات، وتشدق بأكثر الخرافات لا معقولية، ولا عليك، فهذه هي البوابة الفضلى لدخول عالم الفن بكفالة نظام التفاهة".
وما يفاقم من رداءة هذه الممارسة المعرفية الافتراضية بشأن المقولات الخاطئة، هو أن الغالبية التي تتلقى تلك الاقوال والاستشهادات وتتابع ما ينشر في تلك المواقع لا تكترث بمصداقية المنشور، من جانبها، ولا تكلف نفسها عناء التأكد من صحتها، وهي بالتالي، لاتتردد في الضغط على زر الاعجاب، كتشجيع "مجاني" للصديق الافتراضي الذي ينطبق عليه وصف "الشاهد الزور"، إذ وظّف اسما مكرسا أو رمزا أدبيا أو فنيا أو علميا، ونسب له، على نحو جائر، مقولة أو عبارة مزيفة.
ثمة مَن يتبرع بلعب هذا الدور المعرفي الركيك من باب السذاجة والغباء، لكن في المقابل هناك آخرون يخوضون هذه اللعبة عن سابق إصرار وتعمد، عبر نسب مقولات لأسماء مكرسة، تحظى بمكانة جليلة، بهدف الحصول على المزيد من اللايكات، وإحداث التفاعل المطلوب الذي يفضي بدوره، وفق الشروط الغامضة لتلك المواقع، إلى كسب مبالغ مالية وجوائز مختلفة، ذلك أنه كلما ارتفع أعداد المعجبين ارتفعت نسب الأرباح، بحسب المقاييس "المختلة" لهذا الزمن الافتراضي.
نحن، إذا، إزاء لعبة معقدة، اذا جاز التعبير، تتواطئ فيها تلك المواقع مع مشتركيها، لتكون الضحية،في نهاية المطاف، اسماء ورموز معتبرة في حقول الثقافة والفكر والفن، والكثير منهم قد رحلوا عن هذا العالم، فلا يأبه أحد بالعبث الذي يطال أرشيفهم المعرفي والعلمي الثري الذي أصبح نهبا لبعض الجهلة الذين لم يكن يتعدى تأثيرهم، في السابق، جدران مقهى أو حانة، غير أن "السوشال ميديا" استقطب ترهات السذج ومدعي الثقافة، أولئك، إلى الفضاء العام، فما أن ينشر أحدهم تعليقا حتى ينتشر كالنار في الهشيم، ويصفق له قطيع من "الفانز"، فتكتسب المقولة الخاطئة سطوة معرفية يصعب إثبات زيفها، بعد أن نالت الشرعية الافتراضية بأعداد هائلة من اللايكات والمشاركات والتفاعلات.
والأمر لا يتعلق بعجز تلك المواقع عن ضبط محتواها، والتدقيق في مقولات تنسب بشكل خاطئ لكتاب معروفين، فهذه المواقع، ورغم أن عدد مستخدميها يعد بالملايين، إلا أنها تجند جيشا واسعا لتنظيم المحتوى ومعاقبة كل من يتخطى قواعدها الصارمة، فهي مثلا تمنع نصوصا تحرض على العنف والكراهية والعنصرية والتمييز أو الترويج للإرهاب، كما تحظر نشر معلومات شخصية تدخل في باب "القدح والذم"، وتسعى إلى الحد من الإساءة والتنمر والاحتيال والتضليل وغيرها من المسائل ذات الحساسية الاجتماعية والسياسية والثقافية، وثمة أمثلة لا تحصى عن مستخدمين تعرضوا لعقوبات بسبب مخالفة تلك القواعد.
والسؤال هنا: إذا كانت تلك المواقع قادرة على مراقبة ما ينشر عبر حسابات مشتركيها، فلماذا لا تدقق في تلك المقولات الخاطئة، أو تطلب مثلا توثيق المقولات، من خلال ذكر المصدر الذي وردت فيه تلك المقولة وذاك الاقتباس، بهدف التقليل قدر الإمكان من هذا السطو المعرفي الذي يرتكب في أروقة فيسبوك وإكس وانستغرام وسناب شات...وغيرها من المنصات الكبرى.
المهتمون بقضايا السوشال ميديا يعزون سبب مثل هذا التغاضي عن تلك المقولات الخاطئة إلى بعض العوامل، ومنها التحديات اللغوية، ذلك ان تلك المنصات تواجه صعوبة في تحديد المقولات الخاطئة أو المضللة بسبب الفوارق اللغوية والترجمة.
وكذلك تتوجس تلك المواقع - التي لا ترغب في خسارة المستخدمين بل تطمح دوما إلى كسب المزيد منهم - من اتهامات بعدم مراعاة حرية التعبير، فهي تعمل وفقا لمعيار دقيق يحاول التوازن بين مراقبة المحتوى وضمان حرية التعبير، في الآن ذاته، وهذه أيضا عقبة تدفعها إلى التحلي بالمرونة، وتمرير عبارات مشكوك في صحتها، لئلا تتهم بالتضييق على حرية مستخدميها.
علاوة على ذلك، ووفقا للمدافعين عن سياسات مواقع التواصل، فإن هذه المواقع تعتمد على المجتمع المحلي للمستخدمين أنفسهم للإبلاغ عن المحتوى المشكوك فيه أو المضلل، ولئن تقاعس ذاك المجتمع عن القيام بدوره، فلا حرج إذا على تلك المواقع في استقبال "الغث والسمين".
لكن للأمر جانب قاتم، أيضا، فالمبررات السابقة قد تكون صحيحة، بهذا القدر أو ذاك، غير أنها تغفل عن مسألة جوهرية وهي أن الاهتمام الأول لمواقع التواصل هو جذب المستخدمين وزيادة التفاعل والمشاركة على منصاتها، وإذا كانت هذه الاقتباسات المضللة أو الخاطئة، قادرة على جلب المزيد من التفاعل، فإن لدى المنصات دوافع لتجاهل أو عدم التحقق من الصحة المطلقة لهذه المقولات بهدف تحقيق المزيد من الأرباح، بمعنى أن كلمة السر تكمن في بريق الدولار، فلا غضاضة لدى مديري تلك المواقع في نبش مستخدميها للتراث الانساني، على هذا النحو المؤذي، طالما ان ذلك يراكم الثروات.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد