وداعا عيد الفايز

mainThumb

12-04-2025 04:14 PM

سبحان الله! الموت يحمل الكثير من المفاجآت غير المتوقعة، ويُفاجئنا برحيل أعزاء علينا؛ كنا نتوقع -لكثرة حضورهم وتأثيرهم- أنهم باقون بالرمزية حتى لو ابتعدوا أو غابوا بفعل الظروف. لكن يبقى حضورهم الأدبي والمعنوي مُلازماً للذاكرة، فهم من الأشخاص المعدودين الذين شكَّلوا بحضورهم وعملهم القاسم المشترك بين كل فئات الشعب والنظام. وبعد خروجهم من ميدان العمل العام الرسمي، كانوا القوة الناعمة الأكثر تأثيراً لدى الشعب لمصلحة الدولة، لأنهم في الأصل كانوا رجال دولة لا رجال سلطة.

ومن بين هؤلاء الأحرار، معالي الأستاذ عيد زعل الكنيعان الفايز، الذي اختاره الله لجواره في أصعب الظروف التي يمر بها وطننا وأمتنا العربية، ونحن بأمس الحاجة إليه كونه القاسم المشترك المتفق عليه بين أغلب فئات الشعب والسلطة. وأستطيع أن أقول بضمير مرتاح إن فقيدنا الكبير عيد الفايز -رحمه الله- كان من أكثر المسؤولين في تاريخ الدولة الأردنية قرباً من الشارع الأردني.

وبعد خروجه من دائرة القرار، أصبح القوة الناعمة التي لا غنى لدولة (وليس للسلطة) عنها، وذلك لحضوره الشعبي المميز. فقد كان -في كل المناصب التي تقلَّدها من مدير عام الموانئ إلى وزير الداخلية- الأبَ الحكيمَ، والوجه الأكثر قبولاً في الشارع الأردني؛ لأنه حافظ على مسافة واحدة من جميع الفئات، فاحترمه الجميع وأحبوه.

كان حضوره طاغياً رغم ندرة أن يحظى مسؤول بهذا الحضور الشعبي بعد إبرام معاهدة وادي عربة وما أفرزته من تباعد بين القمة والقاعدة. كثيرةٌ هي الصفات والمواقف الإنسانية لفقيدنا الكبير عيد الفايز (أبو سداد)، ومنها وقوفه إلى جانب الكادحين ضد المتسلطين، وكأن قلبه يَنبض بالحق ويَسمع صراخ المظلومين.

أذكر هنا حادثتين تدلان على إنصافه للمظلومين:
الأولى: حين وصل إليه كتاب بفصل أحد العمال، ولم يبقَ إلا توقيعه. وما أن رآه حتى استدعى العامل وسأله بأبوَّته المعروفة: "أتريد العمل أم إثارة المشاكل؟" فشرح العامل تعرُّضه للظلم من رئيس قسمه. عندها استدعى أبو سداد رئيس القسم ومدير الدائرة، وقيل إنهما خرجا بوجوهٍ غير التي دخلا بها!

الثانية: حين صدرت بحقي وستة من زملائي (سليمان نايف الخلفات، ومنيزل الجمعاني، وعاطف الفايز، ومحمد الخليفي، ونواف الزبن) عقوبة بوقف العمل الإضافي لمدة ثلاثة أشهر، مما يعني حرماننا من نصف الأجور. اقترحت كتابة مقال في جريدة "الرأي" (عام 1989م، بعد انتفاضة 17 نيسان المجيدة)، فنُشر المقال وكاد أن يُفصلنا بعض المسؤولين. لكن الفقيد ألغى العقوبة قائلاً: "لو لم يكونوا مظلومين ما كتبوا!"

وأيام اعتصامات عام 1990م، تعامل بحكمة مع مطالب العمال، وحلَّ الأزمة دون أن يُمسَّ أحدٌ بسوء، بل أعطاهم حقوقهم بلا تدخل خارجي.

كم يحتاج وطننا لمسؤولين مثله، ممن يَعتبرون المنصب أمانةً لا وسيلةَ تفوُّق! لقد غيَّر في المناصب التي تقلَّدها، ولم تُغيِّره هي؛ لأنّه آمن أن خدمة الوطن هي رأس المال.

على مكتبه عبارة تُلخّص فلسفته: "لو دامت لغيرك ما وصلتك". رحم الله أبا سداد، وأسكنه فسيح جناته. وما أحوجنا لرجال أحرار مثله، يؤمنون بأن المناصب لخدمة الإنسان لا لاستعباده.

وفي الختام، هناك نجوم ساطعة تركوا بصماتهم كطراد سعود القاضي، وعبد الرحيم ملحس، والمرحوم المهندس محمد إبراهيم العلاونة (وزير الزراعة سابقاً)، وإبراهيم الحباشنة، وغيرهم. أسماءٌ حَفرت في تاريخ الوطن، وكانوا رجال دولة لا رجال سلطة. فلنكن أمناء على إرثهم، ولنُكرِّمهم كما يستحقون.

رحل عيد الفايز، لكنه سيظل مدرسةً في الوطنية، ونموذجاً لرجل الدولة الحقيقي. والعزاء لأسرته الكريمة، ولشعبنا الوفي، ولعشائر بني صخر والفايز والكنيعان. وإنا لله وإنا إليه راجعون.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد