المنطق والإسناد

mainThumb

10-04-2025 10:04 PM

من أشهر معايير الإثبات ما يُردَّد في كليات الأركان والقانون: "لولا الإسنادُ لقال من شاء ما شاء". وما ينتج عن المعايير العسكرية والاقتصادية والقانونية هي لغة الأرقام والمنطق، ولا مجال للعاطفة؛ لأنها مؤدية إلى نتائج كارثية. فالعقل العربي مُبرمَج على العواطف، والعاطفة هنا التوجيه الصوتي دون الاكتراث بالعواقب. في ظاهر الأمر صورة تفاعلية تحاكي العقل العربي الذي يعشق مشاهد الخيل والليل والبيداء، وباطنها ويلات من الدمار والتخلف الاقتصادي، وخلل في منظومة الدولة والمجتمع.

أقدم لكم مثالًا: الشهيد البطل عمر المختار حارب الاحتلال الإيطالي، وعندما أنزل كِرِكسياني قائد القوات الإيطالية أرتاله في منطقة الكُفرة في إيطاليا، كان رأي المجاهدين التوجه إلى الكُفرة لقتالهم. رفض عمر المختار الفكرة وقال لهم: "إن الحرب هناك تعني الموت هناك، ومن الأشجع أحيانًا أن لا يموت المرء؛ لأنه غَلَبَ رأيُ المنطقي أن يحمي قواته لمنازلتهم بمكان آخر وليس إنهاءها هناك". وفي مشهد آخر، الحرب العراقية عام 1990، وأكثر من تألموا وعانوا هم الشعب العراقي الذي نازل أكثر من 23 دولة، ما كانت لتكون لو كان هناك مجلس استشاري منطقي ليحافظ على مقدرات دولة عظيمة بمواردها المادية والبشرية. والكل يمكنه قراءة ما حدث للعراق. وفي مشهد آخر، كانت قوات هتلر في الحرب العالمية التي كانت تحقق نجاحات إلى أن قرر أن يحارب كل أوروبا في مشهد كارثي قلب موازين جيش هتلر الذي تصور أنه قادر على مواجهة كل القوات. ولذلك هناك في الجيوش إدارة اسمها "إدارة الدروس المستفادة"؛ لتحويل التجارب إلى دروس وإدارة مخاطر. وتجربة الراحل جمال عبد الناصر بالعدوان الثلاثي على مصر الذي أخَّر مصر سنوات عن التقدم، والتي كانت مُنطلِقة في بداية الخمسينات في كل المجالات بسبب السد العالي، وكان يمكن حل ذلك بالتفاوض.

إن مهمة الجيوش هي حماية البلد وحدوده بالدرجة الأولى، وهي لا تُعلن عن التحديات اليومية التي تواجهها وتقوم بها لتنعم بحياة سعيدة وآمنة. وأنت تعلم أن وراءك جدارًا يحميك تستند عليه على مالك وأهلك وممتلكاتك، فالجيوش لا تقدم أعمالها عبر وسائل التواصل الاجتماعي للدعاية والإعلان.

إن المعايير والتخطيط الاستراتيجي لا يصح بدون المنطق، فلا مكان للعاطفة فيه؛ لأنه يعتمد على أرقام وحقائق وتكتيك. إن حرب غزة مؤلمة وصعبة وتحدٍّ أمام القانون الدولي وغير مقبولة على كل الصُعُد، ومهما كانت الأسباب، لكن من دفع الثمن هم مدنيو غزة من مشاهد مؤلمة تعتصر في القلب والعقل معًا. وطبعًا لن يقبل العقل العربي العاطفي أن حسابات حرب غزة غير مدروسة ومغامرة لا تمتثل لأي معيار، ومن المعلوم مسبقًا ردة الفعل، وعلى أقل تقدير لم نجد ملجأ للمدنيين مُؤسَّسًا ومُدرَّبين عليه، أو حتى نفقًا للمدنيين من أموال التبرعات السابقة بالمليارات قبل القيام بتلك الحرب المؤلمة. نعم، نحن ضد ما يقوم به الكيان المجرم، ولكن القصة معقدة وموازين القوى غير متكافئة، ونتائج أكثر صعوبة، وما لا تعلمه أكثر صعوبة وخطورة.

خرجت تصريحات الغاضبين في مسيرات سُمِح بها لإيصال رأي المجتمع للعالم، ولكن التصرفات غير صحيحة، فالتجرؤ على المؤسسة الأمنية غير مقبول، وقيام متظاهرين في بنغلادش بتحطيم مطعم كنتاكي يملكه ابن بلدهم تصرف غير سليم. لا تتخيل أن ردة الفعل من خلال تكتيك ستكون حلًا مثاليًا للأزمة، وإنما توحيد الصف والرأي والكلمة أمام العالم هو الأساس، والرسالة تصل بدون كل هذا العنف، وكأن عدوك هو أمنك ومؤسساته. تخيل يا رعاك الله لو قامت الدولة بالموافقة أن تُنزِل المتحمسين إلى ساحة الحرب، كم واحد سيكون موافقًا؟ الإجابة صعبة جدًا.

سوريا التي كانت مقصدًا للسياحة والاقتصاد، وكانت تنعم بوَافِر من الراحة والأمان، مشكلة بدأت بتحريض مُدمَج دينيًا وعاطفيًا، كانت من الممكن أن تنتهي مع المتظاهرين بهدوء وجلسة حوارية. أين سوريا الآن؟ وأين السوري الذي جاب الأرض لاجئًا تاركًا وراءه بلدًا جميلًا؟

هذا الكلام لن يروق للبعض؛ لأنه يصطدم مع المنطق، ونحن نريد لوحة عاطفية مُثيرة بشرط أن لا نكون نحن جزءًا من الثمن، فالهتافات والتشجيع عملًا سهلًا. فالعقل الاجتماعي العربي يُعجَب أن يصف مدير المدرسة الشديد القاسي بشرط أن لا يضرب ابنه، والأمثلة كثيرة. منذ بداية أزمة غزة ونشاهد عبر "تيك توك" من يجلسون في كندا وأمريكا وأوروبا يتمتعون بدخل وأعمال وهم يتكلمون عن أهل غزة، ولم يبادر أحد منهم بدولار لهم، وحتى لو خُيِّر بما يقوله. وأين رجال الأعمال الفلسطينيون بالضفة أو المهجر؟ وأين أموالهم في نصرة أهل غزة؟ كلها أبواق كلامية اختفت إلا ببعض اللوم والكلام.

قال الله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، وقال أيضًا: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}. وفي غزوة مؤتة انسحب جيش الإسلام، ونفس المشهد اليوم ونفس ردة الفعل، قابلهم أهل مكة بمظاهرة حاشدة ليقولوا لهم: "يا فُرَّار"، حتى جاوبهم الرسول الأعظم: "بل الكَرَّار إن شاء الله". ومن يعتقد أنه يبني قراره على أسس دينية، فالرسول آخى بين المهاجرين والأنصار بتجربة فريدة تقاسموا فيها أموالهم وبيوتهم، فهل من أصحاب الرأي الديني من يفعل ذلك أو يتقاسم مع أسرة غزاوية أمواله وبيته؟ طبعًا لا. وأخيرًا، تذكر يا رعاك الله أن اليابانيين ينظمون مظاهراتهم في أماكن مُحدَّدة، وكل منهم فقط يحمل شمعة ويافطة، وتصل رسالتهم لكل العالم.

للأسف، بعض الآراء لا تقبل المنطق والواقعية، فهي مُبرمَجة على قوالب جاهزة وتقديرات عامة باسم منهجيات معينة دون أدوات فعلية. وأختم هذا المقال بأن يُعين الله السلطة الفلسطينية التي تنتقد وهي تقبع على بعد مترات من الكيان في ظل أن العالم وقوانينه عاجزة.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد