سياسات واشنطن في مواجهة التضخم

mainThumb

09-04-2025 12:35 AM

في الوقت الذي تنظر فيه بعض الأطراف إلى قرارات الاحتياطي الفيدرالي ورفع الرسوم الجمركية على أنها أدوات استراتيجية للتحكم في التضخم وتعزيز الاقتصاد الأمريكي، حيث أظهرت هذه السياسات بعض التأثيرات الإيجابية على الاقتصاد الأمريكي من حيث تقييد الصادرات الصينية لخنق الطلب العالمي وبالتالي انخفاض نسب التضخم في أمريكا، وتشجيع الصناعات المحلية الامريكية لزيادة نسب النمو، وتعزيز قيمة الدولار الامريكي كعملة مهيمنة على العالم، يرى آخرون أن هذه السياسات قد تكون قصيرة النظر وتحمل في طياتها آثارًا جانبية سلبية، سواء على المستوى المحلي أو العالمي، ومن هذه الآثار السلبية الآتية:
أولاً، رفع أسعار الفائدة بشكل متسارع بين عام 2022 و2023 أدى إلى تباطؤ النمو الاقتصادي داخل الولايات المتحدة نفسها ليهبط الى ما دون 3%، حيث زادت تكلفة الاقتراض لأكثر من 5%، ما أثر سلبًا على الاستهلاك والاستثمار، وتسبب في ضغوط على الشركات الصغيرة والمتوسطة، كما ارتفعت كلفة خدمة الدين على الأفراد والحكومات، مما زاد من هشاشة القطاعات غير المرنة اقتصادياً كقطاع العقارات وقطاع التجزئة وقطاع التعليم العالي الخاص، بينما عالمياً فقد دفعت هذه السياسات الكثير من الاقتصادات الناشئة إلى أزمة سيولة، إذ ارتفعت قيمة الدولار التي تجاوزت قيمته 100 نقطة مقابل سلة من العملات، وزادت كلفة سداد الديون المقومة به، مما وضع ضغوطاً على موازناتها العامة، كما حصل في مصر التراجع الحاد في قيمة الجنية المصري، وتركيا بارتفاع كلفة الديون الخارجية المقومة بالدولار، وباكستان التي دخلت ازمة سيولة شديدة نتيجة ارتفاع الديون الخارجية ونقص العملات الاجنبية، وغانا وسيرلانكا التي اعلنت عن تخلفها عن سداد ديونها الخارجية في أواخر عام 2022، ونيجيريا التي واجهت تحديات في تأمين الدولار اللازم للاستيراد مما أدى الى تفاقم السوق السوداء للعملات وتدهور قيمة العملة.
ثانيًاً، قد تحفز سياسة فرض الرسوم الجمركية الصناعات المحلية على المدى القصير، إلا أنها تُهدد النظام التجاري العالمي القائم على التبادل الحر، وتفتح الباب أمام حروب تجارية متبادلة، كما حصل بين الولايات المتحدة والصين خلال إدارة ترامب الأولى، وكما يحصل الآن بين الولايات المتحدة من جهة والصين وأوروبا وكندا والمكسيك وكثير من دول العالم من الجهة الأخرى، هذه السياسات قد تؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع على المستهلك الأمريكي نفسه كاصدارات iPone التي ارتفعت تكاليف تصنيعها بسبب مكونات التصنيع المرتبطة في الصين، وأسعار الغسالات والثلاجات نتيجة فرض رسوم جمركية على الصلب والالمنيوم، وأسعار الأثاث والمفروشات بسبب فرض رسوم جمركية على واردات الأخشاب والمنتجات الجاهزة من آسيا، وتؤثر أيضا سلباً على الشركات الأمريكية التي تعتمد على واردات منخفضة التكلفة في عملياتها الإنتاجية كشركات السيارات مثل تسلا التي تعتمد على كثير من المكونات من الصين، وشركات تصنيع الطائرات بوينغ Boeing التي تعتمد على شبكة التوريد العالمية والمرتبطة بالالمنيوم والتيتانيوم، وشركات الملابس مثل Nike التي تستورد معظم منتجاتها من آسيا.
كما أن تجاهل أهمية التعاون الدولي في معالجة التضخم قد يُفضي إلى مزيد من التوتر في العلاقات الاقتصادية العالمية، فالاختلال في سلاسل التوريد خاصة بعد جائحة كورونا عام 2020 بسبب الاغلاقات، وتباطؤها في ظل العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة والتداعيات التي حصلت في البحر الأحمر الذي يشكل نقطة عبور رئيسية لشحنات النفط والسلع، اضافة الى ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة خاصة بعد الحرب في أوكرانيا عام 2022 بسبب تعطل الإنتاج والتوريد من أحد أكبر منتجي الحبوب والنفط في العالم، لا يمكن معالجته من خلال سياسات انغلاقية أو قومية اقتصادية، بل من خلال إصلاحات تنسيقية وحوار وتعاون اقتصادي دولي فعّال بين الدول الكبرى.
بكل تأكيد تسعى الولايات المتحدة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي المحلي، الا أن الإفراط في استخدام أدوات مثل الفائدة المرتفعة أو الرسوم الجمركية دون تقييم الآثار الجانبية قد يؤدي إلى نتائج عكسية، فالعالم مترابط والسياسات هي نتاج توازنات دقيقة بين السياسة، والتمويل، والتكنولوجيا، والبيئة الجيوسياسية، واتخاذ قرارات اقتصادية احادية لا سيما في دولة بحجم الولايات المتحدة، قد تخلق موجات من الأزمات لا يمكن احتواؤها بسهولة، سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها. وبالتالي، السياسات الاقتصادية الأمريكية لا بد لها أن تُصاغ برؤية شاملة ومنطق المصلحة العامة والتعاون الدولي الذي يساهم في تحقيق استقرار اقتصادي عالمي مستدام، كالتركيز على تعزيز الاستثمار في البنية التحتية أو تقديم حوافز لتحفيز الانفاق الاستثماري، لا أن تُختزل في اعتبارات آنية أو تنافسات قومية وحروب تجارية، لأن ما يحدث في واشنطن لا يبقى هناك، بل ترتد أصداؤه على العواصم كافة.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد