لحية ديستويفسكي

mainThumb

08-04-2025 02:42 AM

وصلتني قبل أيام دعوة من مهرجان عالمي للكتاب، طلبوا مني أن أتحدث فيه عن قصة نجاحي! ضحكتُ ضحكًا هستيريًا وأنا أقرأ كلمة «نجاح»! قلت: يا شهد، أروي الحقيقة ليعرف هؤلاء المغرر بهم كيف يكون النجاح في بلادنا العربية وما هو شكله. في صباح اليوم الذي قررت فيه زيارة بغداد وتوقيع روايتي الأولى بعد أن لاقت نجاحًا بعد شهور من صدورها، توقف الزمن، نُصِبَت المشانق في الصفحات المعروفة، وصدر الحكم النهائي غير القابل للاستئناف: أُعدموا رواية «ساعة بغداد».
هل أعيش كابوسًا؟ قلت لنفسي، وأنا أطالع هذا الكم المتدفق من النقد والتجريح المستمر: أين أنت يا ديستويفسكي، الجميع يصيح: (تعال يا فيودور العظيم، انهض أيها المبجل لترى بنفسك ماذا فعلت شهد الراوي بالرواية، لقد دمرت الأدب وأهانت السرد وقتلت الحبكة وشوهت الحكاية). ومن كثرة ما تردد اسم ديستويفسكي، شعرت أن السماء قد أثلجت في بغداد، وكأننا نعيش الليالي البيضاء.
لم تتجاوز عدد النسخ التي طُبعت العشرة آلاف، لكن أحدهم يقول إنه أحصى 120 ألف منشور وتعليق، يتحدث عن رواية سيئة دمرت الأدب في العراق، وحطمت اللغة العربية، وأهانت إرث ثرفانتس.
حمدًا لله، قلت، أن في بلدي 120 ألف ناقد روائي، هذا عدد عظيم يتصاعد يومًا بعد يوم. ولكن كيف قرأ هذا العدد الهائل من النقاد عشرة آلاف نسخة فقط، بيع أكثر من نصفها خارج العراق؟
ليس مهمًا، ليس بالضرورة أن يقرأ الناقد عملًا ليقول عنه: (هذا سرد سيئ). الناقد العظيم لا يحتاج أن يقرأ ليعرف الأدب الجيد من عدمه.
وكي أبقى في حقيقة الأمر، فإن ما يعرف بالنقد الأدبي لم يعد موجودًا، وهذه ظاهرة عالمية كما يبدو، لقد جرى إفساح المجال للمراجعات التي تكتب في الصحف المتخصصة مثل النيويوركر، وباريس ريفيو، ولندن ريفيو وغيرها. لكن في منطقتنا، تحول إلى احتفالات شتائم أو أعراس للاحتفال بأحدهم. وفي الحالين، لا الذي تلقى الشتائم ولا الذي تلقى التهاني كان مهتمًا؛ لأنه يدرك في قرارة نفسه أن أحدًا لم يكلف نفسه قراءة كتابه.
في حالتي، كانت إحدى القارئات قد نشرت، ربما من باب الإعجاب، الصفحة الأولى من روايتي الأولى، وكانت مقدمة بسيطة تتحدث عن بطلة طفلة تراقب حلم صديقتها وتتحدث عن ذلك بلغة طفلة تبلغ الخامسة من عمرها بسذاجة، لكنها سذاجة مستعادة قصدًا، وكانت في الفصل الأول، ومثلها صفحات أخرى مماثلة بصوت تلك الطفلة، طارت هذه الصفحة في الآفاق وصارت شعارًا للمعارضة وراية يرفعها معسكر الإيمان ضد معسكر الكفر، الذي تمثله الرواية ومعجبوها الذين لاذوا بالصمت، أو مراسلتي سرًا: نحن معك.
نشرت قارئة أخرى مقطعًا من أغنية تسعينية وردت على لسان إحدى الشخصيات، علق أحدهم وأيده المئات: ما هذا الإسفاف؟ حتى إنها لم تختر مطربًا جيدًا، إنها تهين الموسيقى المحلية.
لقد كان ذلك خطئي أيها السيدات والسادة، فكيف تجاهلت موزارت؟ كيف نسيت أن أجعل بطلتي تعزف موسيقى فاغنر، الذي لا يتناول النقاد في بلدي فطورهم صباحًا دون أن يستمعوا إلى موسيقاه.
أعتذر منكم أيها البيتهوفنيون الكرام، لقد كانت تلك غلطتي.
اتصلت قريبتنا التي تعيش في أمريكا غاضبة، ما هذا يا شهد، لماذا فعلتِ ذلك؟ أنت بنت مؤدبة وطيبة (مو عيب تكتبين رواية؟) يقولون إنك دمرتِ ذلك الشيء المهم الذي يُسمونه السرد! كيف فعلت ذلك وأنت التي لم تزعجي نملة في حياتك؟ لماذا تفضحيننا هكذا؟ لماذا اقتربتِ من هذا السرد؟ مقدسات الناس ليست لعبة يا حبيبتي!
بعد شهور من التعب النفسي، وقلة النوم والألم الذي تسببت به قسوة الكثيرين، الذين لم يفرقوا بين الكاتب ونتاجه، تلقيت عرضًا من دار نشر بريطانية مهمة لترجمة الرواية. سعدت بهذا الخبر الذي سيمنع سيل التجريح، وكنت على خطأ هذه المرة أيضًا، تركوا الصفحة الأولى وعادوا ينادون: انظر يا دستويفسكي، حتى بلد شكسبير تورط في هذه الكارثة التي اسمها «ساعة بغداد»، إنهم يمنحون الجوائز للجميلات. الحمد لله أنهم يرونني جميلة، وهذا أحياناً أهم من تأليف عشرين رواية.
لم تنته الحفلة التنكرية حتى ترشحت الرواية للقائمة الطويلة لجائزة البوكر، فذهب الهجوم هذه المرة إلى لجنة الجائزة، ولكن النداء تحول إلى: الرحمة لروحك يا نجيب محفوظ، الرحمة لروحك يا فؤاد التكرلي، إن الله يحبكما حين توفاكما قبل أن تشهدا هذه المصيبة التي حلت على هذه الأمة.
جاء الترشيح إلى القائمة القصيرة، فخرج النداء يعلو في الآفاق: أين أنت يا تولستوي، لقد صارت الجوائز تباع علناً.
وأخيراً، ولا أريد أن أحدثكم عن تلك المعاناة الرهيبة، حين جاءت جائزة أدنبرة، لتفوز (ساعة بغداد) عن نسختها الإنكليزية، بالمركز الأول من بين 49 رواية من مختلف دول العالم، قلت حينها الحمد لله، سوف يهدأون قليلاً، لكن الشتائم طالت الملكة إليزابيث، وجدتها المرحومة فكتوريا، وصولاً إلى هنري الثامن، لأنهم لم يدمروا إسكتلندا في الحروب التاريخية.
هذه هي سيرة عملي الأول، الذي بسببه دعيت إلى تلك الندوة لأحدثهم عن تجربتي.

لا أعرف حتى اللحظة ما هي علاقتي بديستوفسكي؟ لماذا عليّ أنا وحدي أن أتحمل وزر عبقريته؟ هل كان هذا الرجل عراقيا دون أن أدري؟ هل كان علي أن أتعلق بلحيته الطويلة وأناشده بيأس” بشاربك خالي فيودور بس فكهم عني”.
إذا كنت روائيًا، وبالتحديد روائية، إياك أن تغامر في النشر ببلد ما زال أهله يمرون على ديستويفسكي الذي يطل برأسه من نوافذ بيوتهم وهو يمسك لحيته متوعدًا! فهؤلاء لا يمزحون مع قوانين السرد ولا يتساهلون مع اضطراب زمن الأحداث في الرواية، ولا يترددون في حرق كتابك إذا ارتكبت خطأ طباعيًا، ولا ينامون إذا كان غلافك ليس حداثيًا بما يكفي، فهؤلاء لم يقرأوا ديستويفسكي، فلا تطالبهم بقراءة كتابك حتى وإن كتبوا 120ألف منشور يهاجمونك فيه. بالطبع، وبعد مرور هذا الوقت، تعافيت من الألم، تعافيت بعد أن ترجمت الرواية إلى عدة لغات، ودعيت بسببها إلى مؤتمرات عالمية وحاضرت في عشر جامعات أمريكية، منها هارفرد ويال وجورج تاون ونيويورك وغيرها، وسمعت انطباعات رائعة من قراء أحبوا الرواية بدرجة مؤثرة، وقرأت مراجعات في صحف عالمية مثل ملحق التايمز الأدبي، والصاندي تايمز والديلي ميل. وبعد إصداري لرواية ثانية، رشحت إلى جوائز مهمة. نعم، تعافيت تماماً، تعافيت من تلك الجراح كلها، غير أنني ما زلت حزينة، لأن قريبتي انتقلت إلى رحمة الله، وهي متأكدة من أنني ساهمت في زيادة تعاسة الشعب العراقي. حزينة لأن الله خلقني روائية في مجتمع فيه ربع مليون ناقد روائي. حزينة لأنني أزعجت ديستويفسكي في قبره. وحزينة لأن قصة نجاحي حزينة.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد