طمأنة السوريين مفتاح الاستقرار

mainThumb

06-04-2025 02:52 AM

من الملاحظ أنه بعد مرور نحو أربعة أشهر على دخول قوات الإدارة الجديدة إلى دمشق 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، وذلك بعد هروب بشار الأسد وسقوط حكم آل الأسد المستبد الفاسد المفسد الذي امتد على مدى 54عاماً؛ أن نسبة القلق تجاه هواجس المستقبل قد ارتفع إلى مستويات لافتة لدى قسم كبير من السوريين الذين انتشوا في البداية بما حدث، وعبروا عن سعادتهم بمختلف الصيغ. بل لعلنا لا نبالغ اليوم إذا قلنا إن مشاعر الإحباط باتت هي المهيمنة على مزاج الكثيرين ممن ضحوا بعقود طويلة من أعمارهم، قضوها بين السجن والمنافي والملاحقة المستمرة والتضييق عليهم من سائر الجوانب.
لقد تفاءل السوريون خيراً بالخطاب المطمئن من جانب السيد أحمد الشرع قبل أن يعلن رئيساً للجمهورية خلال المرحلة الانتقالية في «مؤتمر النصر» الذي ما زالت تفصيلاته ومخرجاته غير معروفة للسوريين. وهو المؤتمر الذي حضره العسكريون فقط من قادة وأعضاء الفصائل، وقيل وقتها أنه وحد الفصائل ضمن إطار الجيش السوري الجديد، وهو الأمر الذي ما زال غير واضح المعالم على أرض الواقع.
وكان الحديث عن «المؤتمر الوطني» الذي كان من المفروض أن يضم ممثلين عن سائر المكونات المجتمعية والتوجهات والقوى السياسية ضمن المجتمع السوري، وهو الأمر الذي لم يحصل؛ بل عقد بدلاً عنه مؤتمر سمي بـ «مؤتمر الحوار الوطني»، تمت الدعوة إليه بصورة غير حرفية، ومن دون أي مراعاة لبنية المجتمع السوري من جهتي التعدد والتنوع، فالمكونات المجتمعية السورية بأسرها، ومن دون أي استثناء، شركاء في الوطن والمصير، وليس من حق أحد استبعادها عن الفضاءات التي تناقش فيها مصير السوريين ووطنهم تحت شعار عدم اعتماد المحاصصة الذي لم نفهم منه حتى الآن سوى هيمنة اللون الواحد، إن لم نقل المظهر الواحد.
وحتى الآن لم يقتنع الكثير من السوريين بالمسوغات التي تسوق لتمرير مسألة الإصرار على استبعاد القوى السياسية السورية، وحتى العسكريين المهنيين المنشقين، إلى جانب الشخصيات الوطنية المعروفة التي أدت أدوارا بناء على تاريخها ومواقفها منذ بدايات الثورة السورية، بل وقبلها بعقود في ميدان مقارعة سلطة آل الأسد في مرحلتي الأب والابن عن المشهد.
وفي كل مرة يجري الحديث عن أهمية إشراك الأحزاب، (وقطعاً لدابر القيل والقال، أبين هنا بأنني شخصيا مستقل تركت العمل السياسي، أتعامل مع المشهد كمراقب حريص على وطنه وشعبه)، يأتي الجواب من جانب مسؤولي الإدارة الجديدة بأنه سيصدر قانون الأحزاب. وهو القانون الذي على الأغلب لن يصدر لغايات بدأت ملامحها تتبلور شيئاً فشيئاً، أو قد يصدر، ولكن من دون آليات فاعلة، تسمح للقوى السياسية التي تريد ممارسة العمل السياسي أن تنظم صفوفها، وتتحرك وفق أسس قانونية مشجعة لا محبطة من أجل الإسهام الجاد في عملية رفع القيود التي تعرقل نشوء حركة سياسية نقابية سورية نشطة.
وجاءت الطامة الكبرى مع الإعلان الدستوري الذي انتظره السوريون كثيراً، وهو الإعلان الذي أكد مجدداً وجود رغبة لدى الإدارة في تمرير ما ترتأيه، ومن دون إعطاء أي اعتبار لخصوصية الوضع السوري، وأهمية، بل وضرورة، طمأنة الناس وتبديد هواجسهم بعقود مكتوبة، وتعزيز الثقة بين السوريين بخطوات وإجراءات ملموسة على أرض الواقع.
والقراءة الأولية للإعلان تبين أنه يحاول أن يجمع بين أيديولوجيتين: قومية عربية ودينية إسلامية لا تأخذان الواقع السوري التعددي المتنوع من جهة الأديان والمذاهب والانتماءات الإثنية والقومية، والتيارات الفكرية بعين الاعتبار.
فالأيديولوجية القومية التي تعرضت في مصر والعراق وسوريا نفسها منذ البدايات لإخفاقات كبرى، لا يمكن اعتمادها دواء شافيا من جديد. فالناس قد وصلت إلى قناعة راسخة بأن الشعارات القومية الكبرى التي رفعت إنما كانت في واقع الحال لإبعاد الخصوم، والإطباق على الداخل الوطني.
أما الأيديولوجية الإسلامية بصيغها المختلفة، لا سيما الجهادية منها، التي طرحت نفسها بوصفها الحل بعد إفلاس المشروع القومي وانهيار الاتحاد السوفياتي، هذا في حين أن هذه الأيديولوجية لم تتمكن هي الأخرى من تقديم الحل المطلوب لمجتمعات منطقتنا، لاسيما تلك التي عانت، أو ما زالت تعاني في ظل الأنظمة الجمهورية، من شهوة العسكريين المفرطة إلى السلطة والثروة.
فالإعلان يؤكد بناء على العرف الذي رسخته الأنظمة الأيديولوجية القومية على الهوية القومية للدولة التي من المفروض أن تكون مجرد جهاز إداري محايد بصورة إيجابية على مسافة واحدة من سائر المكونات. أما الهوية فهي مسألة تمس المكونات المجتمعية التي تشكل بوحدتها الوطنية شعب هذه الدولة أو تلك.
كما يؤكد الإعلان ضرورة فصل السلطات التشريعية التنفيذية والقضائية، ولكنه في الوقت ذاته يشدد على مسألة دين رئيس الدولة، وهو أمر يتعارض مع مبدأ المواطنة الذي يدعو الإعلان ذاته إلى الأخذ به من حين إلى آخر؛ هذا مع العلم أن هذا الأمر كان سيعد من باب تحصيل الحاصل، ولم يكن هناك داع لصياغة قاعدة عرفية تكون في معظم الأحيان أكثر تأثيراً من نص مكتوب. ويمنح الإعلان المشار إليه في الوقت ذاته صلاحيات واسعة للرئيس الانتقالي تشمل السلطات التشريعية التنفيذية والقضائية، إلى جانب العسكرية، ومن دون أي إمكانية للمساءلة أو المحاسبة.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا بخصوص اعتماد الإعلان الدستوري الفقه الإسلامي المصدر الأساسي للتشريع هو: أي إسلام يقصده الإعلان الدستوري؟ هلّ هو الإسلام السوري المديني المعتدل المعروف في المدن الكبرى بتياراته المختلفة؟ أم الإسلام الجهادي الذي يبلغ أحيانا حد تكفير بقية الطوائف الإسلامية، ومنها بصورة خاصة في سوريا العلويين والدروز والإسماعيليين؟ بل أن بعضهم يكفر قسما كبيرا من أهل السنة أنفسهم ممن لا يوافقونهم على أطروحاتهم الأيديولوجية التعبوية؟
هذه الهواجس تولّد قلقاً مشروعاً لدى السوريين، وتجعلهم يخشون من المستقبل. هذا بينما يفاجأ بعضهم الآخر بمنعهم من تنظيم اللقاءات المدنية والسياسية، بأعذار غير مفهومة وغير مسوغة، الأمر الذي يستغله بعضهم من الداعين إلى صيغ علمانية متطرفة لا تأخذ الواقع السوري بعين الاعتبار. فالدين الإسلامي شئنا أم أبينا قد تحول إلى جزء عضوي من الثقافة الوطنية السورية التي يتشارك فيها سائر السوريين بصرف النظر عن الانتماءات الدينية والمذهبية أو القومية، ولا يمكن لأي دعوة إلى علمانية متوحشة، تخلى عنها أصحابها سواء في فرنسا أم تركيا أم روسيا ومعها الدول التي كانت ضمن المعسكر الاشتراكي أيام الاتحاد السوفياتي، أن تكون هي العلاج المطلوب في هذا السياق.
الوضع السياسي السوري على الصعيدين الرسمي والشعبي لا يشجع كثيراً، وذلك بسبب هيمنة الارتجالية، وطغيان القرارات الفردية، والإصرار على التعامل الفردي الشخصي مع ممثلي مختلف التيارات السياسية. هذا في حين أن هيئة تحرير الشام، رغم الإعلان عن حلها، والفصائل المتحالفة معها، ما زالت هي القوى المتحكمة بمفاصل القرارات، عبر وضع اليد على الوزارات السيادية. ولكن مع ذلك كله، أعتقد أننا لم نصل بعد إلى مرحلة السوداوية القاتمة، كما يروج بعضهم.
فتشكيل الحكومة الانتقالية أعطى رسائل إيجابية بخصوص امكانية المشاركة الوطنية، هذا رغم شكلية تلك الرسائل، وحرصها على اقناع المجتمع الدولي بجدية الإدارة السورية الجديدة على المشاركة، ولكنها مشاركة ناقصة ما دامت القوى السياسية والمجتمعية غير مشاركة، بل لديها الكثير من الهواجس التي تعبر عنها صراحة.
بقي أن نقول: ما ينقذ سوريا هو طمأنة سائر مكوناتها ومن دون أي تمييز عبر الإقرار بالحقوق والمشاركة الحقيقية في الإدارة والثروات، أما العزف على وتر رفض المحاصصة فهو لن يحمل من الرسائل في الظروف الحالية سوى الرغبة في التحكّم والتفرّد وإقصاء الآخرين.
طمأنة السوريين أولوية الأولويات التي ستؤدي إلى الاستقرار المجتمعي، وتحصين المجتمع السوري أمام سائر الجهود التخريبية التي تبذلها، وستبذلها القوى المتضررة مما حدث ويحدث في سوريا. وكل ذلك لن يكون من دون اعتماد الخطاب المعتدل الوطني الجامع، وتجريم خطاب الكراهية بكل أشكاله.

*كاتب وأكاديمي سوري






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد