متعة الإدمان والعبودية
كلما داهم فأر مسكنا وسبب فوضى وهرج، يأتي الخيار الأوَّل للتخلُّص منه وضع قطعة من الجبن داخل مصيدة. الغريب أن ذاك الحلّ البسيط المتوارث منذ مئات السنين ناجع، ولا تقلل من كفاءته إلَّا نسبة هامشية من الفئران. أمَّا الأغرب، فهو أن الفأر هو من يسعى بنفسه للدخول لتلك المصيدة، التي يُترك بابها مفتوحا من أجله خصيصا. حقا، هو يستمتع بالتهام قطعة الجبن الشهية الموضوعة له، لكن الثمن الباهظ الذي يدفعه في النهاية هو حياته. أمَّا المدهش فهو أن الناجين من الفئران، غالبا، هم تلك الفئة التي شاهدت أقرانها يدفعون حياتهم ثمنا لمتعة تنتهي بالسيطرة الكليَّة عليهم، والتي تفضي إلى فقدانهم لحياتهم في النهاية، لكن أيضا يجب عدم إغفال أن هناك أيضا بعض الفئران تذهب للمصيدة، إمَّا بدافع التذاكي أو حتى الفضول. لكن النهاية الأكيدة هي فقدان حياتهم.
أمَّا الإنسان، الذي يعد أكثر ذكاء من الفئران، لم يحفزه ذكاؤه طوال حياته لإيجاد وسيلة للنجاة من تلك المصيدة، والأدهى أنه لا يتعلَّم أبدا من أخطائه؛ فقد اكتفى بالإشباع اللحظى، الذي يدمِّر ليس فقط صحته الجسدية والنفسية والعصبية، بل أيضا حياته بأكملها، التي أصبح لا يبالي وهو يراها تمرّ أمامه، بينما ارتضى بأن يكون غارقا في التفاهة، بحثا عن المزيد من المتعة، التي لا ينفك عن مطاردتها، لكنه لا يحصل عليها أبدا.
فمنذ بداية التطوُّر التكنولوجي، خاصة بعد الثورة الصناعية الثانية، بدأت برمجة الآدميين على السعي وراء المتعة الاستهلاكية، بل بدأت معدلات البرمجة تستفحل بعد الحرب العالمية الثانية، ووصلت لأشدَّها مع عصر الرقمنة. والغرض من إعادة برمجة الآدميين على مطاردة المتعة، هو السيطرة الكاملة عليهم، بحيث تعمل الغرائز الخفية ـ مهما كان نوعها ـ على السيطرة على اللاوعي، ومن ثم لا يدرك الإنسان لماذا يُقبل على الأمور التي يرفضها عقله والمنطق، لكنه لا يستطيع سوى مطاردتها بكل الوسائل دون وعي منه، وكأنه واقع تحت سيطرة إحدى التعويذات الشريرة. والنماذج الواضحة على ذلك كثيرة ومتكررة في حياتنا اليومية. فعلى سبيل المثال، الإنسان يتحدث بهاتفه الذكي لساعات طويلة قد تستهلك يومه كله، ويفعل ذلك دون طائل يُذكر؛ كما أنه يقلِّب الصفحات، أو يشاهد الفيديوهات القصيرة، التي غالبا ما تكون سخيفة، لكنه يصرّ على مشاهدة المزيد، على الرغم من أنه ربما يشعر بمللٍ شديدِ منها، لكنه يتابع البحث على أمل أن يصادف الجيد. وبالتأكيد، تساعده على ذاك السلوك المدمِّر، خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي درست مزاجه، ثم تبدأ في توجيه مسارات عقله إلى اتجاهات كفيلة بأن تغير مسار حياته الحرَّة إلى عبودية أبدية.
ولا يمكن إلقاء اللوم على صفحات التواصل الاجتماعي ومشاهدة الفيديوهات فقط؛ فحتى الطعام والملابس والعلاقات هناك يد خفية تعبث بها بضراوة شرسة. فبالنظر للطعام، أصبح ملحوظا اختفاء شكل الأطباق المنمقة والأكل بأناقة، وحلّ مكان الطعام الجيد ذي الطعم المحدد، خلط الطعام بعضه ببعض وتغطيته بشكل كامل بصلصات تنسال وتتهطَّل كلما أمسكت به، وتم الترويج إلى أنه هكذا تكون أشهى ألوان الطعام. وذاك النوع من الطعام لا يُصيب مستهلكه بالسمنة فقط، لكنه أيضا سبب رئيسي وراء إصابته بأمراض عضال قد تُجهز على حياته؛ وعلى الرغم من ذلك، فقد أصبح اللون المحبب، خاصة لدى الشباب والأطفال الذين نشأوا في ظل الترويج لتلك الأطعمة. وعند الحديث عن الملابس، حدِّث ولا حرج، فقد وصل العبث بذوق الإنسان في الملبس إلى جعله يُقبل حرفيا على ارتداء ملابس ليست فقط ذات ألوان مُنفِّرة، بل أيضا ممزقة ومهترئة؛ لأنه تم الترويج بأنها أحدث الصيحات. والمدهش أن أسعارها تزداد ارتفاعا، وأنماطها تزداد غرابة وبشاعة. ومن الجلي أن السبب في إقبال البشر على كل ما هو ضار ومؤذ بعقل واع تماما هو مطاردة المتعة، التي أصبح من غير الممكن أن يحظوا بها، بعد أن شعروا بها لوهلة في بداية السير في طريق المتعة، الذي لا عودة منه.
والكثير من المشاهير انزلقوا في الفخ، وخاضوا هذا الطريق، ولعل الكاتب الإنكليزي شديد الذكاء والحصافة أوسكار وايلد Oscar Wilde (1854-1900) أحد أبرز الأمثلة؛ فعلى الرغم من شهرته الشديدة التي جعلته يهيمن على ساحة الكتابة المسرحية في ثمانينيات القرن التاسع عشر، فقد دمَّر نفسه تماما عند مطاردته للمتعة؛ حيث مارس كل ما هو غريب ومُحرَّم ومُجرَّم من قبل القانون، بل وصل به الوعي بمشكلته تلك إلى كتابته لمسرحية «صورة دوريان جراي» The Picture of Dorain Gray التي يقابل فيها البطل حتفه طوعا جزاء للبحث عن أقصى درجات المتعة الهيدونية، وكأنه في محاولة يائسة لتطهير نفسه، أو الخروج من مصيدة إدمان لا فرار منه.
وقد لاحظ الكاتب الإنكليزي إتش. جي. ويلز H. G. Wells (1866-1946) الثاقب البصيرة انزلاق البشر إلى هوَّة عبودية طوعية تقتص من آدميتهم. ولهذا، في عام 1895، كتب رائعته الخالدة «آلة الزمن» The Time Machine التي يصف فيها واقعنا الديستوبي الحالي، وما سوف تؤول له البشرية، وكأنه يعاصر تغييرات الزمان. ومن دون شك، كان للتقدُّم المذهل النصيب الوافر في تحويل الإنسان إلى مجرَّد أداة استهلاكية أنانية لا تبالي إلَّا بالمتعة فقط، حتى لو كان ذلك يودي بحياتها في نهاية المطاف. وتنبَّأ أنه من أجل الانغماس في إدمان المتعة، لسوف يصبح إنسان المستقبل لا يبالي بمصيره. ويحذِّر ويلز من أن مظاهر تلك الأنانية والعبودية قد ظهرت بالفعل في زمانه، كمتلازمة للتطوُّر، أو كما يؤكِّد المسافر عبر الزمان قائلا: «لقد شهدنا بعضا من بوادر ذاك الأمر حتى في زماننا [يقصد القرن التاسع عشر]، لكنها وصلت إلى حد الاكتمال في زمن المستقبل هذا».
أمَّا الكاتب والفيلسوف الإنكليزي ألدوس هاكسلي Aldous Huxley (1894-1963) فقادته بصيرته واستبصاره لمصير البشرية في ظل التطوُّر المتسارع حينها إلى تصوُّر السيناريو الكامل لعالمنا المرقمن، ولمصير البشرية وكيفية السيطرة عليها، دون أن يلحظ أحد. وكان يردد: «ستبدو الديكتاتورية المثالية أشبه بالديمقراطية، لكن في جوهرها ستكون سجنا بلا جدران، لا يحلم السجناء فيه حتى بالفرار. ستكون في جوهرها نظام عبودية، حيث يستمتع العبيد بعبوديتهم من خلال الاستهلاك والترفيه». وهذا تماما ما يحدث حاليا، فقد أصبح لقاء الأصدقاء والاستمتاع بتبادل الخبرات والخروج للتنزُّه، أمرا يثير الملل، في حين أن سجن الإنسان لنفسه أمام شاشات الأجهزة الرقمية والذكية، ليس بغرض البحث والتطوير، بل بغرض مطاردة المتعة بأي وسيلة، صار مكان الرَّاحة الوحيد لأي فرد في عصرنا المُرقمن. ودون أدنى عناء، أصبح البشر يفضِّلون العالم الافتراضي عن الواقع الذي تزداد صعوبة فهمه في كل يوم عن سابقه. حتى مصطلحاته تزداد غرابتها مع كل صباح؛ فالمجاز واللجوء للاختصارات والعامية المقززة، التي تلخِّص حوارات في جملة، أو حتى كلمة واحدة أصبحوا البديل الشائع للجمل الطويلة والشرح المسهب، أمَّا المشاعر فتحوَّلت إلى إيموجي، ومن المنتظر مع انتشار الذكاء الاصطناعي أن يزداد الأمر سوءا. وفي رائعته «عالم جديد شجاع» Brave New World (1932) يحكي هاكسلي عن عالم المستقبل، الذي أصبح فيه جمال التطوُّر والتقدُّم والرُّقي الشديد الذي تحظى به البشرية سجنا بلا جدران، واقعه مخادع ويعج بالفساد، أمَّا بالنسبة لعنوان الرواية فهو عنوان ساخر لا يعكس أيضا الواقع الذي تنسجه الرواية، فهو مقتبس من أحد أشهر الأسطر في مسرحية «العاصفة» لشكسبير، عندما وصفت الفتاة البريئة ابنة «بروسبيرو» الشرير الجزيرة التي يعيش عليها والدها، فما كان منه إلَّا أن ردّ عليها: «هذا العالم يبدو هكذا بالنسبة لك»، ما يدلّ أن المظاهر الجميلة تخدع الغريب، وتسجن من يحاول العيش فيها. وتدور أحداث الرواية، الديستوبية أيضا، في إحدى دول عالم المستقبل، حيث تسيطر الآلات المتطوِّرة على المشهد بأكمله، وتمت هندسة المواطنين وتكييفهم بطريقة تجعلهم دائما يخضعون لقوَّة غير مرئية، لكنهم لا يستطيعون الفرار منها أبدا. وعلى الرغم من أن الذكاء هو الوسيلة الوحيدة لتقييم وتقسيم سكَّان تلك الدولة، لكن الجميع وصل بهم حد الغباء إلى عدم القدرة عن الخروج من الشرنقة التي صارت مفروضة عليهم، بل ويخشون الفرار منها لأنهم عشقوا متعها لدرجة الولاء. وهذا هو حال الإنسان في العصر الحالي، كالفأر يطارد المُتعة القاتلة، التي وإن بلغها، سوف تكون لحظية.
ومن الواضح أن جميع الروايات والرؤى الفلسفية التي تناقش عالم المستقبل تسير وفق سيناريو واحد، يعكس علاقة طردية بين الهلاك والتقدُّم الشديد. ويلاحظ أيضا أن صدمة دخول الذكاء الاصطناعي في واقعنا قد اختفت، لدرجة أن جميع المستويات أضحت تترقَّب الحديث منه، والسبب هو أن تلك التكنولوجيا أصبحت توفِّر متعة أكبر لمستخدميها، ما يعني أن التكنولوجيات أصبحت كغيرها من السلع الاستهلاكية؛ فكلَّما كان لديها جانبا ترفيهيا أكبر، زالت غُربتها.
ذكاء أوسكار وايلد وتنبؤه بمصيره لم يثنيه عن تدمير نفسه، وكذلك التحذيرات التي يطلقها مستبصرو المستقبل من أمثال إتش. جي. ويلز وألدوس هاكسلي لم تثن البشر عن مواصلة مطاردة متع لن يحصلوا عليها أبداً.
في العيد .. سقوط عشرات الشهداء والجرحى في قطاع غزة
الملك يغادر أرض الوطن في زيارتي عمل إلى ألمانيا وبلغاريا
تخفيض سعر البنزين بنوعيه 25 فلساً
الرئيس السوري الشرع يقبّل يد والده .. فيديو
الحنيطي يزور رؤساء الأركان السابقين ويصلّي بقاعدة الملك عبدالله الثاني
رئيس السياحة النيابية يتفقد مستشفى الإيمان الحكومي بعجلون
قضية الاعتداء الجنسي تطارد الملياردير الراحل محمد الفايد
كم وجبة إفطار وزّعت الخيرية الهاشمية بغزة خلال رمضان
إدانة مارين لوبان المرأة الحديدية بفرنسا باختلاس أموال
الصين تضع شروطا للقاء شي جين بينغ بترامب
ارتفاع عدد الشهداء بغارات الاحتلال على غزة منذ الفجر
أكثر من 122 مليون قاصدٍ للحرمين الشريفين برمضان
بعد الزلزال المدمر .. 36 هزة ارتدادية تضرب ميانمار
عالم فلك أردني يحسم الجدل حول رؤية الهلال وتحديد موعد العيد
مركز الفلك الدولي يصدر بيانًا حول موعد عيد الفطر
إنهاء خدمات مدير تربية وعدد من الموظفين .. أسماء
الأمن العام: الفيديو المتداول لدورية نجدة قديم ومضى عليه خمس سنوات
حالة الطقس المتوقعة من الثلاثاء حتى الخميس
الاردن : تدافع أمام السفارة العراقية للحصول على تذاكر مباراة العراق وفلسطين .. شاهد
ولي العهد يؤدي العشاء والتراويح في عمان .. صور
غرامة تصل إلى 500 دينار لمرتكبي هذه المخالفة .. تحذير رسمي
أنباء غير مؤكدة عن مقتل عبدالملك الحوثي
جريمة قتل مروعة تهزّ الشونة الجنوبية في رمضان