أوروبا ليست عملاقا

mainThumb

28-03-2025 06:45 AM

من باريس إلى لندن، ومن بروكسل إلى برلين، طاردت كاميرات التلفزيون الزعامات الأوروبيّة خلال الأسابيع القليلة الماضية، وهي تنتقل من قمة موسعة إلى أخرى على نطاق أضيق، ومن اجتماع طارئ إلى آخر مجدول، ومن لقاء علني مفتوح إلى آخر سريّ مغلق، والموضوع العتيد على الطاولة لا يتغيّر: كيف تعيد أوروبا موضعة نفسها في العالم بعد الصدمة التي تلقتها على يد (الرئيس الأمريكيّ) دونالد ترامب.
لقد كانت الرسالة التي تلقاها القادة الأوروبيون من الإدارة الجديدة في واشنطن شديدة الصراحة والصرامة: أمريكا ليست جمعية خيريّة، ولن توفر للقارة العتيقة حماية أمنية مجانيّة بعد اليوم، ولا شراكة اقتصاديّة مضمونة، ولا تحالفاً سياسياً مفتوحاً.
حتى نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ظل الأوروبيون يعيشون وهم العملقة، فنظروا لأنفسهم كجزء أساس وعمق تاريخي لهيمنة غربيّة على الكوكب، بالشراكة مع حليفهم الوثيق على الجانب الآخر من الأطلسي: الولايات المتحدة، وهم شربوا – ربما أكثر من الأمريكيين أنفسهم – حكاية «نهاية التاريخ»، ذلك الهراء الأكاديميّ عن أن التاريخ الذي بعد تنقلات كثيرة عبر الجغرافيات والإمبراطوريات والأزمنة، قد قرر التقاعد والتزام الهدوء، فاستوى على عرش انتصار ديمقراطيّة الجنس الأبيض الليبرالية، وعزم على ألا ينتقل ثانية من تلك اللحظة الوارفة من تقاطع الزمان والمكان.
ولأن أوروبا عاشت استقراراً طوال العقود الأربعة الأخيرة – بداية من لحظة سقوط جدار برلين عام 1989- فإن هذه الأوهام والحكايا انعكست على الخطاب الأوروبيّ تجاه الآخر، فلم تتوانَ عن فرض عقوبات على روسيا جارتها الشرقية، وحاضرت على الصين الصاعدة في حقوق الإنسان، وشاركت بحماس وفعاليّة في الحروب والفوضى التي اجتاحت الشرق من أفغانستان إلى غربي أفريقيا وما بينهما.
ثم جاءت لحظة الحرب الأوكرانيّة.

في الحرب مع روسيا خسرت أوروبا كل ميزة تنافسيّة

أعادت أوروبا بناء ذاتها بعد خراب الحرب العالمية الثانية بفضل الولايات المتحدة وروسيا. فالأولى أنفقت الأموال وضمنت الاستقرار الأمني الذي سمح للأوروبيين بالتركيز على إعادة تأهيل صناعاتهم وتأسيس الجودة كميزة تنافسيّة في التجارة مع العالم، والثانية أمدتهم بموارد الطاقة: النفط والغاز والفحم بأسعار زهيدة ودون تكاليف نقل تقريباً، فشكلت لهم منصة ارتكزت عليها ميزتهم التنافسيّة.
لكن الحرب الأوكرانيّة غيّرت كل ذلك. إذ وجد الأوروبيون أنفسهم منخرطين في صراع إمبراطوريات لا ناقة لهم فيه ولا جمل، لكن نخبهم افترضت أن دورهم المعتاد هو في الاصطفاف الأعمى وراء الأمريكي، فصرفوا أموالاً طائلة في ثقب الحرب الأسود بلا عائد، وأرسلوا بمعظم عتادهم العسكري إلى كييف ما جعلهم مضطرين لمضاعفة الإنفاق الدفاعي لتعويض ذلك، والأهم أنهم قادوا حرب حصار اقتصادي ضد روسيا، فقطعوا إمدادات الطاقة الواردة منها بأشكالها، وتوقفوا عن التصدير لها، وامتنعوا عن شراء المحاصيل والأسمدة الزراعية منها، لا بل وحاصروا الثقافة والأدب الروسيين وحرضوا شعوبهم على الشعب الروسي.
لكن ذلك كله لم يتسبب بالأذية للجار الشرقي بقدر ما صنع للأوروبيين كارثة اقتصاديّة لم ولن تتعافى منها القارة ربما أبداً. إذ تعيّن عليهم شراء مصادر الطاقة بأسعار أعلى بما لا يقاس، ما تسبب – ضمن عوامل أخرى – في إطلاق أسوأ موجة تضخم أسعار وكساد اقتصادي لم تعشها شعوبهم منذ الحرب العالمية الثانية، وفقدت الصناعات الأوروبيّة المنصة التي بنت عليها ميزتها التنافسيّة، فلم تعد في وارد مواجهة تمدد الصناعات الصينيّة القريبة الجودة والأقل سعراً.

ثم كان ترامب

حظيت أوروبا بفرصة لتجربة أولى استكشافية في التعامل مع ترامب خلال ولايته الأولى، لكن أوهام العملقة ونهاية التاريخ منعتها من فهم طبيعة الأجندة التي يحملها التيار اليميني في السياسة الأمريكيّة، فلم تغيّر شيئاً في نهجها الاستراتيجي. وهكذا فوجئت مفاجأة الغرّ بصلافة ترامب في ولايته الثانية. لقد قرر الرجل البرتقالي أنه قد حان موعد إنهاء الحرب العبثية في أوكرانيا، وبدلاً من التصارع مع روسيا الكبيرة في حرب لا أفق لها، عزم على التحول إلى التفاهم معها في إحكام الهيمنة على الموارد الطبيعية الهامة في أوكرانيا وغيرها.
وفي هذه الأثناء يدير تفاصيل التسوية مباشرة مع الروسي دون أدنى تشاور مع الأوروبيين، وبعث لهم برسائل واضحة بأن عليهم مضاعفة مساهمتهم المالية في الدفاع إن هم أرادوا الاستمرار بالاستفادة من مظلة الحماية الأمريكية عبر منظومة الناتو، وفرض على صادراتهم الرئيسة إلى السوق الأمريكية تعرفات جمركيّة باهظة، وأطلق وزراءه ومبعوثيه ليسخروا من الديمقراطية الأوروبيّة، ويتدخلوا لتأييد أطراف سياسية دون أخرى في الانتخابات المحلية في دول القارة.
وهكذا، وفي يوم وليلة، وجدت أوروبا نفسها دون أدنى قيمة استراتيجيّة، معرضة للابتزاز المالي مقابل الحماية الأمنية، وبلا ميزة تنافسية اقتصادية حقيقيّة توازياً مع تراكم أزمات داخليّة معقدة في كل دولها الرئيسة.

الاستجابة الخطأ في الوقت الخطأ

إن النخبة الموهومة الفاشلة، التي قادت أوروبا برجليها إلى أسوأ زاوية حرجة في تاريخها منذ خمسة وسبعين عاماً تبدو وكأنها لم تتعلم شيئاً حتى من الصفعة الترامبية الأحدث. ولذلك فإن استجابتها للتحولات في نسق العالم ما زالت منطلقة من ذات الدائرة الموهومة، حيث تقاطع الشعور الكاذب بالعملقة مع القناعة بأسطورة نهاية التاريخ.
فهي قررت أن يفرض الأوروبيّون وجودهم على الحدث الأوكراني عبر تأسيس قوة أوروبيّة تتولى حفظ السلام في أوكرانيا قبل أن يطيح بها ترامب كما الهباء، عبر رفضه توفير التغطية العسكرية لمثل تلك القوة، وحاولت دون نجاح يذكر في فرض مساهمة إجباريّة على كل دولة أوروبيّة لدعم المجهود الحربي الأوكراني – رفضتها هنغاريا وهولندا – ثم جاءت الطامة الكبرى بخطة رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، لما أسمته «إعادة تسليح أوروبا» والتي تضمنت أرقاماً فلكيّة من ديون يفترض بدول القارة اقتراضها من أجل بناء قدرات عسكريّة تسمح بالاستغناء عن الحماية الأمريكيّة – والتي تحفظت عليها إسبانيا وإيطاليا وطالبت حتى بتغيير اسم المشروع إلى شيء أقل عدوانية.
ولإضافة الإهانة إلى الجرح، أعلنت المفوضية أن تلك الأموال كلها ستذهب كلها إلى شركات أوروبيّة حصراً – ما يعني حرمان الشركاء الأمريكيين والبريطانيين من حصة في الكعكة، وما يهدد بمزيد من الصلف الأمريكي في إدارة العلاقة بالقارة!
إن ترامب لن يذهب بعيداً في وقت قريب، ولذلك فالأولى للنخبة الأوروبيّة السعي للخروج من الزاوية الحرجة هذه من خلال إقصاء الأوهام. فليست أوروبا بعملاق اقتصادي أو عسكري، – أقله مقارنة بثلاثي الصين وروسيا والولايات المتحدة – ولا نحن في نهاية التاريخ بعد، ولذلك فإن شيئاً من الواقعية ضروري لتجاوز المرحلة: إعادة بناء الميزة التنافسية الأساسية عبر التشبيك مع روسيا والصين، وبراعة في إدارة العلاقة مع الولايات المتحدة، واستثمارات طويلة المدى ربما عبر عقد أو اثنين لبناء قيمة اقتصادية واستراتيجية تتيح بناء علاقات تعاونية مع العالم.
بغير ذلك، فسيجد الأوروبيون أنفسهم خلال سنوات قليلة وقد أزيحوا من عضوية العالم الأول، وأصبحوا أقرب إلى مجتمعات عالمنا الثالث المزدحم بالفاشلين.

٭ إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد