وصف الهزيمة وهزيمة الوصف

mainThumb

23-03-2025 03:15 AM

لم نعد بحاجة إلى إعمال التحليل لبرهنة أنّ الحرب، في نظر الإسرائيليّين، لم تنته: لا في غزّة التي عاد إليها الموت والتوحّش بكامل زخمهما، ولا في لبنان الذي لا يُجلى عنه، ولا في سوريّا التي تُقضم أرضها ويمضي الاستيلاء على سمائها كما أُسّس في العهد البائد. وإذ يضيف الأميركيّون إلى الإسرائيليّين الشطر الحوثيّ من اليمن، يتبدّى أنّ هدف الحرب المتجدّدة أميركيّ بقدر ما هو إسرائيليّ. أمّا إيران، التي لم يعد سرّاً تدمير سلاحها الجوّيّ، فتكاد تنحصر خياراتها بين الاستسلام الاستباقيّ وتلقّي الضربة، وهذا بعدما رُسمت للعراق حدود صارمة في الحركة والتدخّل.

وأن يكون هدف التصعيد الإسرائيليّ – الأميركيّ معاهدات سلام تترجم ما سمّاه نتنياهو «شرقاً أوسط جديداً»، أو تستكمل فصل «السلام الابراهيميّ»، فبات يملك الكثير من الوجاهة المعزّزة بالقرائن. وفي هذه الغضون ترتفع حظوظ أفعال احتلاليّة وإحلاليّة كتهجير سكّان غزّة أو ضمّ الضفّة الغربيّة إلى الدولة العبريّة.

ولا نضيف جديداً حين نصف الطور الراهن من الحرب بما وُصف به الطور الأوّل. فهو أيضاً من صناعة القوّة الإسرائيليّة العارية غير المعنيّة بشيء وغير المكترثة بقانون دوليٍّ لم يعد يكترث به في العالم كثيرون. لكنّ هذا لا يلغي أنّ الفارق الفلكيّ في موازين القوى يجعل موازين القوى نفسها تعبيراً افتراضيّاً، وذلك بعدما جُرّبت الحروب والمقاومات تباعاً لتنتهي بنا إلى ما نحن فيه حاليّاً. فوق هذا، تعيش منطقة المشرق تنافساً في الضعف والهزال اللذين يضربان جيوشها واقتصاداتها ومجتمعاتها المدنيّة، فضلاً عن بعثرة سكّانها في ظلّ هجراتها المليونيّة. وهي، إلى ذلك، تفتقر إلى أدنى القدرة الذاتيّة على إعادة الإعمار الضاغطة في سوريّا وغزّة ولبنان، ولا تجد، في مواجهة التغوّل الإسرائيليّ، حلفاء قادرين ومؤثّرين في العالم. ولئن كانت الأوضاع الأهليّة داخل بلدانها شديدة التردّي، تعصف بها رغبات انفصاليّة مكتومة، فإنّ أوضاعها الحدوديّة، على ما دلّت الاشتباكات اللبنانيّة – السوريّة مؤخّراً، أقرب إلى أن تكون استطالة لأوضاعها الأهليّة المضطربة.

هذه اللوحة الكئيبة تحضّ على التوقّف مليّاً أمام أوضاعنا: ماذا نفعل، كيف نوقف التدحرج عند حدّ، ألا يُفترض بنا أن نراجع الأفكار والممارسات والعلاقات التي أفضت بنا إلى هذا الجحيم؟

وحدهم الممانعون هم الذين يملكون جواباً واضحاً وقاطعاً كحدّ السيف، جواباً يقلب صيغة الإمام مالك بن أنس رأساً على عقب، بحيث تغدو: لن يدمَّر آخر هذه الأمّة إلاّ بما دُمّر به أوّلها، أي أنّنا بالمقاومة إيّاها نغادر النفق الذي وضعتنا فيه المقاومة. والسلوك هذا قابل للقراءة من زوايا مختلفة تتضارب حيناً في ما بينها وتتكامل أحياناً:

فهناك، بالطبع، البُعد الإيرانيّ، ومفاده إبقاؤنا في خنادق ساقطة بما يتيح لطهران مفاوضة الولايات المتّحدة، علماً بأنّ خياراً كهذا يتساقط يوماً بيوم هو الآخر.

وهناك البُعد الإعجازيّ، حيث يُناط بمعجزة ما أن تتدخّل وتقلب المعادلات التي تصفع وجوهنا ولا تترك أيّ حيّز للغموض أو الاجتهاد في التأويل.

وهناك البُعد العدميّ، وقد ذكّرنا مؤخّراً الزميل عمر قدّور بأنّ معمّر القذّافي سمّى بلده «الجماهيريّة العربيّة الليبيّة الشعبيّة الاشتراكيّة العظمى» تحديداً بعد تعرّضها لغارات جوّيّة أميركيّة في 1986. وهكذا يرتبط اكتساب العظمة بالتعرّض لضربات الأقوياء.

وتنطوي العدميّة هذه على بُعد انتحاريّ تلخّصه العبارة التوراتيّة المنسوبة إلى شمشون «عليّ وعلى أعدائي يا ربّ»، والذي تستعرضه خصوصاً أحوال الشطر الحوثيّ من اليمن البائس.

وأخيراً، هناك البُعد الجريميّ الذي تعبّر عنه شعارات كـ «القتال بلحم الأطفال»، وتترجمه التضحية بالبشر في ظلّ يأس كامل من الانتصار، بل من تحسين شروط الهزيمة. وفي ظلّ هذا اليأس المعزّز بالواقع، يغدو «الأعداء» في العبارة الشمشونيّة هم نحن بوصفنا وحدنا المرشّحين للموت المجّانيّ.

ومنذ القرن السابع عشر كان الفيلسوف الإنكليزيّ جون لوك قد ميّز، في تأمّله «الفهمَ الإنسانيّ»، بين ما سمّاه «صفات أساسيّة» للأشياء والموادّ و»صفات ثانويّة». فالتفّاحة، مثلاً، ذات حجم ووزن محدّدين، وهذان من صفاتها الأساسيّة، أمّا مذاقها فواحد من صفاتها الثانويّة. وبسبب «موضوعيّة» الصفات الأساسيّة يُستبعد الخلاف فيها، فلا يمكن لواحد أن يقول إنّ وزن التفّاحة ربع كيلوغرام ولسواه أن يقول إنّه ثلث كيلوغرام، ويكون الجوابان صحيحين. أمّا الصفات الثانويّة، ولأنّها «ذاتيّة»، فتُجيز لأحدهم أن يعتبرها طيّبة المذاق، كما تجيز لغيره أن يعتبر مذاقها غير مُستحبّ.

أمّا الأساسيّ في واقعنا الراهن فهو الهزيمة التي لا يلوح في الأفق ما يمكن اقتراحه علاجاً سهلاً لها. وأمّا الثانويّ فاختلافنا في النظر إلى أسبابها وإلى النتائج المنجرّة عنها، وربّما في عواطفنا ورغباتنا المتّصلة بها. لكنّ الممانعين يجعلون الأساسيّ، الموضوعيّ، ثانويّاً وذاتيّاً، والثانويّ، الذاتيّ، أساسيّاً وموضوعيّاً، ثمّ يتصرّفون على هذا الأساس دونما اكتراث بالبشر وبالأكلاف الهائلة. وهذا ما قد يدفع بعض المتأمّلين بـ»الفهم الإنسانيّ» إلى تشاؤم عميق.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد