يقولون احلبوه

mainThumb

21-03-2025 02:46 PM

بغض النظر عن المعضلة الإنسانية التي تبدّت منذ تحولت المجتمعات البشرية من الأمومية إلى الأبوية والتي تجلت في تسيد الذكر كافة مناحي الحياة وفي جعله مصدر الامتداد البشري وفي تسمية الأبناء باسمه وانتمائهم التام اجتماعياً ودينياً له، وبغض النظر عن كل القواعد العشائرية التي بنيت عليها المجتمعات البشرية ككل وتتمسك بها إلى آخر رمق المجتمعات الشرق أوسطية، وبغض النظر عن النظر للمرأة على أنها إنسان درجة ثانية تقاليدياً واجتماعياً ودينياً، كانتا كلمتين (مجازاً) قلتهما على منصة إكس، وأشعلتا في حسابي النار بقذائف الهاون التي انطلقت من أفواه بعض المعلقين، هو تساؤل بسيط هذا الذي طرحته أنا أن «لماذا يتبع الأبناء جنسية الآباء في مجتمعاتنا؟ يأخذ الأبناء 23 كروموسوماً من الأم ومثلهم من الأب، لماذا نشعر أن الدم الذكوري هو ما يسري في العروق، فيما علمياً لا يوجد أي فرق، بل يميل التأثير الأقوى بيولوجياً إلى الأم؟ العقيدة والتقاليد لا علاقة لهم بالجنسية كموضوع مدني حديث، فأي منطق هنا؟
ولأن التعليقات توالت مستنكرة التجنيس على الأم، كان لزاماً علي توضيح وجهة النظر، حيث أردفت مفصّلة أنه يفترض أن «للجنسين حق توريث الجنسية للأبناء تساوياً مواطنياً. إذا لم يكن الازدواج مسموحاً في قوانين الدولة، يخير الأبناء عند البلوغ». تقلبت التعليقات ما بين استنكار واستخفاف وشتم وتكفير، وصولاً إلى تذكيري بأن الانتساب للأم سيحولني إلى مجهولة الأب، حالي «حال اللقطاء»، على حسب ما ورد في تعبير المعلق. بل وذهب أحدهم للتنويه بالتساؤل «المنطقي» أن ما هو اسم قابيل؟ «قابيل آدم، والا قابيل حواء؟» مستغرباً من طريقة تفكيري اللاعقلانية على ما يبدو. وبغض النظر عن أن «اللقطاء»، وهو توصيف قبيح مرفوض، لا يعيبهم شيء مطلقاً ولا ذنب لهم أبداً في اختفاء آبائهم المجرمين بحقهم من حياتهم، وبغض النظر عن أن الانتساب لجنسية الأم لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد، لا بالمنطق ولا حتى بالغباء الخفيف، بمجهولية الأب، وبغض النظر عن أنه مما لا شك فيه بالنسبة للمؤمنين بالقصة الدينية أن أبناء النبي آدم لم تُستخرج لهم شهادات ميلاد ولا بلاغ ولادة يُنسبون فيه للأب. بغض النظر عن ذلك كله، ما علاقة موضوع الجنسية المدني الحديث بالنسب وامتداد الدم وحمل اسم الوالد والتشريع الديني لعلاقة الأبناء بالآباء والأمهات؟ هل هناك تشريعات دينية تخص الجنسية والانتماء الدولي الحديث؟ هل هذه مواضيع لها علاقة بالدين من قريب أو بعيد؟ هل كان مفهوم الجنسية حاضراً في مكة قبل ألف وأربعمئة سنة، وبالتالي شُرّع له مداً وامتداداً ذكورياً؟
بلا شك، كانت هناك تفاعلات ممتازة ناقشت هذا التمييز الجنسي عميق الجذور في تاريخنا الإنساني، كما وأتى عدد من التعليقات مناقشاً القضية العلمية لتوارث الجينات، إلا أن هذه التعليقات غرقت في بحر الصوت فقير الذكاء، والذي كان أبرز ما تجلى فيه هو الفشل العربي الذهني التام في استيعاب الفرق بين الامتداد العرقي وروابط الدم، والمفاهيم المدنية الحديثة للدولة وأجهزتها التنظيمية ومفهوم الجنسية الذي يرتب أمور الانتماء اللوجيستية والقانونية للأفراد، فيوليهم حقوقاً ويحملهم مسؤوليات بموجب قانون مدني ينظم أمورهم بغض النظر، يفترض، عن العرق أو الدين أو الجنس. وهو بالمناسبة، ما أتت عليه المادة 29 من الدستور الكويتي نصاً، والتي تقول «الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، وهم متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين».
لقد عجز أغلبية المعلقين عن التفريق، بأي صورة أو شكل، بين الصيغة المدنية للدولة التي يعيشون فيها والصيغة الشرعية للدين الذي يعتنقون، ولربما هذا أخطر ما في الموضوع وأكثر ما يتسبب في تعقيداته ومشكلاته الخطرة. حقيقة الأمر أن الناس، في أغلبيتها، غير قادرة على فصل الاثنين. فالتصويت النيابي على سبيل المثال، يتم في معظم دولنا على أساس ديني أو مذهبي، المناصب القيادية يحددها الانتماء العقائدي أو العشائري، كما أن معظم الحقوق والواجبات المدنية يتداخل معها التشريع الديني. نحن نريد أن نحيا حياة متحضرة في دول مدنية، ولكن بقوانين شرعية لا تتواءم والمفهوم المدني للمساواة التامة بين الأديان والأجناس والطبقات والتوجهات الحياتية المختلفة. نريدها مدنية على مقاسنا، مدنية تنحصر في حدودنا العشائرية القديمة التي لم تلتقط بعد أول خيط الفهم الحضاري الحديث للمساواة البشرية التامة بين كل البشر مهما قسمهم الفكر الديني أو وضعتهم العشائرية فوق بعضهم طبقات. الدين لله والوطن للجميع، هذه الجملة البسيطة لم تدخل بعد الوعي العربي الإسلامي، لا بدرهم ولا بدينار.
أقول دولة مدنية، يقولون الشرع يقول. أقول للأمهات كما الآباء حق تجنيس الأبناء فيقولون قابيل كان اسمه «قابيل آدم». أقول الأم مواطنة كما الأب فيقولون يعني أنك تريدين أن تدخلي علينا غرباء لا نعرف عنهم شيئاً فتخلطي عرقنا ودمنا. أقول الجنسية والمواطنة شيء والأصول والأنساب والأعراق كمفاهيم عشائرية أو اجتماعية أو حتى علم اجتماعية أو أنثروبولوجية شيء آخر، فيقولون الجنسية ستخلط أصولنا، وأنا لا أدري حقيقة ما في أعراق وأصول ودماء هؤلاء لكي يخافوا عليها كل هذا الخوف العصابي، لربما هم دون باقي البشر؛ يطيرون ليلاً ونحن لا نعرف؟ وهكذا هو حوار إكس: أقول لهم ثوراً…
وأخيراً، حرب الإبادة التي لم تتوقف فعلياً، عادت بعنف أقوى على مرأى ومسمع من العالم أجمع. إسرائيل الصهيونية تحفر بقذارة استعمارها قبرها وتسعى بعناد الثور (الذي حدثت به قرائي أعلاه) للاصطدام بحائط طغيانها الأحمر لتتمزق إرباً على صخر الرأي العام وعلى ضفاف منظور التاريخ الآن وأبداً. هي بداية النهاية لهذا الكيان الشاذ، لكن الثمن باهظ، أغلى وأعظم ما دفعت البشرية في كل تاريخها. والآن، ها هو البعيد يتغير ويحتج ويعتصم ويأخذ الشوارع بهديره، فما فعل القريب؟ بئس القرابة تلك.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد