الجنون الإسرائيلي الأخير

mainThumb

20-03-2025 03:24 AM

في الجنوب السوري، حيث تمتزج رائحة الأرض برائحة الدم، يصرخ صوت طفلة وسط الركام: «أمي كانت مريضة.. وهلأ ميتة.. أمانة يا عمو»!
لم يكن هناك وقت للدموع، ولم يكن هناك متسع للحزن، فقد جاءت الطائرات الإسرائيلية كعادتها، تحمل معها الموت، دون إنذار، ترسم في سماء درعا شبح الفناء. غارتان جويتان، كفيلتان بمسح أسماء من دفتر الحياة، ثلاث أرواح أُزهقت، وتسعة عشر جسداً بين جريحٍ ومذعور، بينهم أطفال لم يكن لهم ذنب سوى أنهم كانوا هناك، حيث قررت آلة الحرب الإسرائيلية أن تصبّ لعناتها.
تحت الركام، كانت طفلة أخرى تحاول أن تفهم ما حدث، لكن وعيها الصغير لم يستوعب سوى الألم: «عمو.. وقع عليَّ حجر من فوق.. وإخوتي وقع عليهم الباب.. وكل دارنا احترقت كلها».
حاول المسعف أن يتمالك صوته، لكنه لم يجد إلا كلمات خاوية ليواسيها بها: «يلا بسيطة عمي».
لكن الطفلة لم تكن تسمع كلماته، كانت غارقةً في سرد التفاصيل وكأنها تحاول أن تحفرها في ذاكرة العالم قبل أن تخبو أنفاسها: «أخوي الكبير مات.. كان أبوي يقريني.. وقع علينا كرسي.. حاسة حالي دخت.»
ذلك الدوار الذي تحدثت عنه، لم يكن مجرد إحساس بالجسد المتعب، بل كان دوارَ الروح، التي بدأت تتلمس طريقها نحو السماء، هاربةً من هذا العالم الذي لم يمنحها سوى الرعب والركام.

لبنان: نزيف الجنوب في عزلة الموت

على الحدود الجنوبية، حيث يشتمّ الهواء رائحة البارود يومياً، لم تكن الحرب سوى امتداد لعادة قديمة. اعتادت إسرائيل أن تقتحم السيادة اللبنانية، كلما أرادت استعراض قوتها، في تحدٍ مستمر لكل المواثيق الدولية. لكن هذه المرة، لم تكن مجرد غارة عابرة، بل كانت موجة من الهجمات طالت قرى وبلداتٍ في الجنوب، وصولًا إلى البقاع الغربي.
وزارة الصحة اللبنانية أعلنت بمرارة عن استشهاد شخصين، ولكن الأرقام ليست سوى جانبٍ واحدٍ من الحقيقة. فما لا تحصيه البيانات هو صدى الانفجارات في قلوب الأمهات، وما لا تراه الأرقام هو القلق الذي يسكن الأطفال الذين نشأوا وهم يعرفون أن السماء ليست مكاناً آمناً للنظر إليها، فهناك دائماً طائرة تنتظر لحظة الغفلة لتلقي بحمولتها الجهنمية على رؤوسهم.
إسرائيل لا تهاجم فقط، بل تخترق، تحلق، تراقب، تُبقي لبنان في حالة استنفار دائم. لا تنام القرى الحدودية، لا تهدأ القلوب، ولا تتوقف الأمهات عن القلق.

غزة: مجزرة الساعات الست

ماذا يمكن أن يقال عن غزة بعد؟ أي لغةٍ يمكن أن تحتوي هذا الكمّ من الموت؟
في أقل من ست ساعات، تحوّل القطاع إلى مقبرة جماعية، أكثر من 450 شهيداً ومئات المصابين، البيوت التي كانت تغصّ بالأحلام، تحوّلت إلى رماد. لم يكن هناك فارق بين الليل والنهار، ففي غزة، تسقط القذائف بلا ميعاد، لا فرق بين من كان مستيقظاً ومن كان نائماً، لا فرق بين الرضيع والشيخ، الجميع هدفٌ محتملٌ لهذا الجنون الإسرائيلي.
في زوايا الخراب، كان أبٌ يرفع يديه إلى السماء، صوته ممتلئ بالخذلان واليأس: «أنت نعم الوكيل يا رب».
وفي زاوية أخرى، كانت أمٌّ تحتضن جسدًا صغيرًا لم يعد يتنفس، تمزقت روحها بين شهقةٍ وأخرى وهي تكرر: «هم نايمين أولادي.. وهم نايمين يا ربي.. أولادي ماتوا وهم نايمين».
لم تكن قادرة على استيعاب أن النوم، الذي كان يومًا مصدراً للراحة، أصبح مرادفًا للموت في غزة.
وفي مشهد آخر، صوتٌ يصرخ على الأب، لكن الأب لم يكن يسمع، كان يحمل ابنته التي لم يعد فيها نبض، وكان الموت وحده يجيبه.
ما يحدث ليس حرباً، لأن الحرب تعني وجود طرفين متكافئين، ما يحدث هو جريمة إبادة، حيث يمتلك أحدهم كل أدوات القتل، بينما يمتلك الآخر فقط القدرة على الموت بصمت.
إسرائيل، التي تبرر كل عدوان بأنها «تدافع عن نفسها»، تحوّلت إلى آلة قتل لا تفرّق بين صغير وكبير، بين مقاتل ومدني، بين بيتٍ ومسجد. لم تعد هناك خطوط حمراء، لم يعد هناك أي وازع أخلاقي. القصف عشوائي، الضحايا يُسجلون بالأرقام، والإدانة الدولية لا تتجاوز البيانات الخجولة التي لا تردع ولا تمنع.
وفي المقابل، لا يملك أهالي درعا ولبنان وغزة سوى الصمود، ذلك الصمود الذي لا يشبه الصلابة بقدر ما يشبه العجز المرير. فهم لا يملكون سلاحًا يوازي بطش الطائرات الإسرائيلية، لا يملكون أنظمة دفاع جوي تمنع الصواريخ من هدم منازلهم، لا يملكون شيئاً سوى الصبر، ذلك الصبر الذي أصبح لعنةً أخرى، لأنه يُستخدم كذريعةٍ دولية لتركهم وحدهم في مذبحةٍ بلا نهاية. إن الصمت الدولي ليس جديدًا، لطالما كانت السياسة لعبة المصالح، وإسرائيل تعرف ذلك جيدًا. تعرف أن العالم لن يتحرك طالما أن الضحايا هم العرب، وأنه لن تكون هناك عقوبات أو قرارات ملزمة طالما أن الدم المسفوك هو دم أطفال غزة ونساء درعا وشباب الجنوب اللبناني.
لكن هناك شيءٌ واحد لا تستطيع إسرائيل، ولا كل قوى العالم، أن تتحكم به: الذاكرة.
الذاكرة التي تحتفظ بأسماء الأطفال الذين قضوا تحت الركام، الذاكرة التي لا تنسى صوت الطفلة التي كانت تبحث عن أمها وسط الدمار، الذاكرة التي تحمل وجوه الأمهات الثكالى والآباء المقهورين. قد تتمكن إسرائيل من هدم البيوت، لكنها لن تتمكن من هدم الحقيقة. فالحقيقة تظل حية، تنتظر يوماً تنقلب فيه الموازين، ويصبح المجرم في قفص الاتهام، بدلاً من أن يكون في طائرةٍ تقصف الأبرياء بلا حساب. في ذلك اليوم، ستُسمع الأصوات التي تم تجاهلها، وستُروى القصص التي حاولوا طمسها، وستُعاد تسمية الشوارع بأسماء من ماتوا فيها، ليعرف الجميع أن هذا الجنون لم يكن يوماً قدراً محتوماً، بل كان جريمةً لا بد أن يُحاسب مرتكبوها.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد