ملمس الضوء

mainThumb

17-03-2025 01:42 AM

هل ممكن أن يتعرف شخص أعمى على تاريخ عائلته من خلال الاطلاع على صور أفرادها؟ قبل سنوات عديدة كان الجمع بين كلمتيْ أعمى ورؤية الصور في جملة واحدة ضربا من الخيال العلمي، أما مع التطور التكنولوجي الذي أصبح يسير بسرعة الضوء، فقد أصبح هذا المستحيل ممكنا، يكفي أن يمتلك الأعمى جوالا وينزل عليه تطبيقا ينقل المرئيات بالصوت ليصبح عينه التي يرى بها. وهكذا وضعت الروائية الإماراتية نادية النجار هذا التطبيق بين يدي نورة بطلة روايتها «ملمس الضوء»، الصادرة عن دار المتوسط والواصلة إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية هذا العام. هذه الحيلة التقنية الفنية مكّنت الروائية من تصوير قرابة قرن كامل (1922-2020) من تاريخ دبي والبحرين، من خلال قصة عائلة تناسلت عبر أجيال ثلاثة، أورثت حفيدتها الصغيرة حكايات الطموح والخيبة والمأساة أحيانا، كما أورثتها نوعا نادرا من العمى، يسمى فقد البصر الوراثي نقله إليها جينيا والدان مبصران.

بتقنية سرد اشترك فيها ثلاثة: راوية متكلمة هي نورة الفتاة الثلاثينية المصابة بالعمى، وراوٍ عليم (وقد يكون أحيانا بلسان سالم جد نورة) يروي لنا قصة والد جدها «علي» من خلال استنطاق الصور، وجعلها منطلقا للحكاية. والسارد الثالث ليس سوى يوميات «ماري» جدة جد نورة التي ورثت عنها نورة العمى، وكذلك حبَّ الكتابة لتدوين أحاسيسها. هذه المراوحة بين الرواة الثلاثة كسرت رتابة الرواية وعدّدت الأصوات التي شاركت في معمارها. وعلى عكس ما يبدو للقارئ للوهلة الأولى، أن ثيمة الرواية الأساسية هي العمى وما يصاحبه من مشاكل يلاقيها الأعمى للتأقلم وانعكاس ذلك على نفسيته، إلا أن هذا الانطباع مراوغ فأكثر من نصف الرواية استحوذ عليه والد جد نورة «علي» في رحلته، لتحقيق ذاته من دبي إلى البحرين. وهذا لا ينفى أن فكرة العمى وما يتعلق بها هي المدماك الذي يقوم عليه معمار هذه الرواية، وهذا ما صرحت به الروائية نفسها في أحد لقاءاتها «شغلَتني فكرة العمى، وكيف يعيش الكفيف في عالم المُبصرين. كانت رحلة طويلة من البحث عن ماهية العمى وأنواعه وأسبابه الطبية». وقد تجلى هذا الانشغال ابتداء من عنوان الرواية «ملمس الضوء» حيث تنزاح فيه حاسة النظر تاركة مكانها لحاسة أخرى هي اللمس، في ما يعرف طبيا بالمرونة العصبية (Neuroplasticity) وهي حين يقوم الدماغ بتعزيز وظائف الحواس الأخرى مثل اللمس، السمع، أو الشم لتعويض فقدان حاسة البصر، وإن كانت الروائية أرجأت تفسيرها للعنوان إلى آخر صفحة من روايتها حين سألت ماري الكفيفة أختها عن شكل الضوء، وهما في مغارة يتسرب من ثقوب سقفها النور في شكل حبال ممتدة، فأجابت الأخت بأنها لا تعرف كيف تصفه، بل لا يمكنها لمسه ولكنه ينير المكان، ففهمت ماري الضوءَ على طريقتها ولمسته بأسلوبها «اكتشفتُ أخيراً الضوء، وإن كان مختلفاً عما تراه. ربّما شيء يخصنا.. تصوّرتُه شيئاً يأخذ بيدي.. يرشدني.. يدلّني على الطريق.. هذا هو ضوؤنا نحن.. نحن العميان».

وتقسيم أبواب الكتاب أيضا مبني على الحواس التي يعوّض بها الأعمى عدم قدرته على النظر، فنجد في الرواية أربعة أبواب هي: باب الصوت، باب الرائحة، باب المذاق، باب اللمس. تحت كل باب فصول متعلقة به، وكأنها شرح مفصّل لمتن مجمل، وهذه الأبواب الأربعة التعويضية تختصرها الجملة التي وردت على لسان البطلة حين لا ترى النار، ولكن تدركها بحواسها «عرفت أن للاحتراق رائحة تشبه سجائر جدي، وصوتا يشبه صياح أمي، وألما يظل لأيام على الزنود».
فكل شيء يُرى له مقاربته المختلفة عند العميان كالمسافة بين شيئين التي يقدرها المبصرون بأعينهم بينما يقدرها العميان بشكل مختلف، إذ هي عندهم تساوي شدة الصوت وكثافة الرائحة، فكلما كان الصوت قريبا، والرائحة أقوى، عرفوا أن المسافة أقرب. وكذلك الأمر بالنسبة للألوان التي تشكل تحديا لنورة، حين تقول «لا أدرك مفهوم الألوان ولكن الأشياء ترتبط عندي بلون معين، وارتباط شيء بلونين متغيرين يربكني»، وإذا كانت هذه التفاصيل تبدو عادية للمبصرين حتى أنهم لا ينتبهون لها، هي للعميان عوائق يسعون لتجاوزها ولا يسهّل لهم كثير من المبصرين ذلك، حين يتنمرون عليهم أو يؤذونهم بألفاظ جارحة، وهذا حال نورة مع أمها مثلا، التي صرخت عليها حين رفضت وضع مساحيق التجميل قائلة «عمياء عنيدة»، أو معلمتها حين أهدتها نورة ورودا فعلّقت وراء ظهرها «ما لي حظ في الدنيا حتى الفل الذي تعطيني إياه الطالبة العمياء ذابل». هذه المعاناة المزدوجة خففت منها التكنولوجيا التي وظفتها الروائية، من خلال الكتابة عن برامج خاصة بالعميان يجهلها كثير من المبصرين، مثل تطبيق «كن عينيّ» (Be my eyes) الذي يمكّن العميان من معرفة ما يريدون شراءه، من خلال الاتصال بشخص مبصر يتطوع لمساعدتهم ويصف لهم ما تصوره كامراتهم، لذلك حين امتلكت نورة جوالا لمست ضوءا آخر انداحت معه مساحة حريتها، فوصفت ذلك «شغل الآيفون مساحة من حياتي وأعطاني فسحة من الاستقلالية وصار يلازمني في كل وقت.. لم يعد الصمت يرعبني».

غير أن تطبيق سيينغ آي (Seeing AI) الذي يصف ما يرى أمامه بالكلمات، فتح لنورة نافذة على تاريخ عائلتها عادت بها قرابة القرن للوراء، وفتح لنا نحن القراء أيضا، نافذة أخرى على تاريخ منطقة الخليج والبحرين تحديدا، في فترة ما بين الحربين العالميتين، والتحول الذي شهدته المنطقة من مجتمع يعتمد رجاله على صيد اللؤلؤ، مع المخاطر المصاحبة لهذه المهنة الصعبة، إلى مجتمع بدأ الانفتاح على العالم الخارجي من خلال شركات التنقيب على النفط، وما أحدثه ظهور الذهب الأسود من تحول في بنية المجتمعات الخليجية. فهذا التطبيق على هاتف نورة الذكي، الذي بدأ استعماله بغاية تصوير الصور العائلية بطلب من قريبها سيف، جعل ذاكرة جدها المفجوع بموت زوجته وابنه بجرعة مخدرات زائدة، يفتح مغارة علي بابا ويستخرج منها كنوز ذكرياته، فكل صورة تنثال معها قصة، وهكذا نتعرف على عبود البسيط وقصة موته في حريق حي الراس في دبي، كما نتابع بالتفصيل رحلة علي والد سالم جد نورة إلى البحرين عاملا بسيطا في شركة نفط البحرين بابكو وتعرفه إلى يوسف الأمريكي المولع بالتصوير فيتعلم منه علي استعمال «العكاسة» (الكاميرا) ليعتقل عبرها لحظات هاربة من الزمن: يومَ قادته الصدف إلى العمل مع الوجيه ناصر بن سالم المحرّقي وتغيرت حياته إثر ذلك، وحكايات أخرى توسعت رقعتها إلى البصرة ولبنان، يتجلى من خلالها الجهد المبذول من نادية النجار في التوثيق الروائي لتاريخ وتقاليد المنطقة، أخبرت أنه استغرق منها «ما يقارب الأربع سنوات من حيث البحث والكتابة والمراجعة». وقد أجادت فيه الروائية تصوير أثر الحروب على المجتمعات، من خوف ومن ندرة المواد الغذائية ومن جشع بعض التجار برفع الأسعار والاحتكار، ولكن يقابل ذلك أيضا طيبة المجتمع وتكافل أفراده وشهامة تجار آخرين.

لغة «ملمس الضوء» في مجملها سلسة، وإن كنت لم أستسغ كثيرا تنقيط الجمل التي بررها الناشر في غلاف الرواية الخلفي بقوله «عندما تصف نورة حركاتها وتنقلاتها كعمياء، فإنها تصفها خطوة خطوة، ما يعني في الكتابة جملة جملة، مع ما يترتب على ذلك من وضع نقطة بعد كل جملة/حركة» فلا أرى دورا وظيفيا للنقاط المتكررة في مقطع مثل: «أنتفض. أقوم. أرفع أعلى جذعي. عرق ينز من أنحاء جسمي كلها. أرمي اللحاف. أنفاسي سريعة ومضطربة. أسمعُ ضربات قلبي بوضوح. أحرّك أطرافي. أسمع صرير السرير. أمسح وجهي بطرف كُمّ منامتي. برودة تلامس وجهي. أستلَّ نَفَسَاً عميقاً. تهدأ ضربات قلبي شيئاً فشيئاً».
استطاعت الروائية نادية النجار في روايتها «ملمس الضوء» أن ترينا الصورة وما وراء الصورة، من خلال بناء روائي محكم فكرة وأسلوبا وحكايات، كل واحدة منها تمسك بيد الأخرى، تنوِّر بصائرنا عن تاريخ منطقة وتقاليدها، لا تزال أرضا بكرا لمن يحفر فيها، مستهدين بحكمة الجد سالم وهو يشرح لحفيدته الكفيفة بأنّ «صاحب البصر يشوف الصورة وصاحب البصيرة يشوف وراء الصورة».

شاعرة وإعلامية من البحرين






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد