التوترات الجيوسياسية والاقتصادية الإقليمية

mainThumb

17-03-2025 01:22 AM

يمر العالم بلحظات صعبة على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وتعاني الأسواق المالية بمعظم مؤشراتها من تقلبات اقتصادية، وهذا ما يعرض الدول لوجود أجواء ضبابية غامضة على المشهد السياسي، حيث تواجه الدول تحديات في مواقفها وتصريحاتها، ويعرقل من قدرتها على اتخاذ قرارات سليمة وواضحة سياسيا، ويزداد الانقسام بين دول العالم بوجود القطبين العملاقين الصين وأمريكا اللذان يتصارعان اقتصاديا وراء مصالحهما وموقعهما والبحث عن الثروات في العالم.

شاهدنا كيف تعثرت إسرائيل في المرحلة الأولى، رغم الجسر الجوي المفتوح والدعم المطلق من أمريكا، في عدم قدرتها على تحقيق انتصار على حماس خلال عام 2024، وتعثرت في قدرتها على إعادة الأسرى، وفي نهاية المطاف، أدركت اسرائيل أنها لن تستطيع أن تنتصر على غزة الا في حالة واحدة، وهي تجفيف منابع الدعم أو المساندة وقطع مدد السلاح الذي يصل الى حماس.

استطاعت إسرائيل بوقت مبكر بأن تجفف المنابع الأقرب الى حماس، فبدأت في لبنان، وضربت بقوة حزب الله، وقتلت قياداتها، وفككت قوتها التي كانت تؤرقهم في الشمال، وعادت بهم الى ما وراء الليطاني، واستطاعت أن تقلب النظام السوري وتلغي كردور تدفق السلاح، وعملت على تضييق المساحات، وسيطرت على جبل الشيخ والقنيطرة ومناطق واسعه في الجنوب السوري، وبالتالي استطاعت تجفيف منابع الدعم وقطع مدد السلاح الى حزب الله، ولكنها دفعت ثمناً كبيراً يتمثل بغموض توجه النظام السوري الجديد تجاه ما يحصل في فلسطين.

وبالتالي، في سوريا، رغم كل المخاطر الجيوسياسية، والتدخلات الخارجية التي تعمل على زعزعة الأمن الداخلي، والتدخلات الإسرائيلية في الجنوب السوري، واستمرار العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة على سوريا، يحاول الرئيس السوري أحمد الشرع بأن يسير بالدولة السورية نحو الاستقرار بسياساته الناعمة، والحفاظ على التهدئة، وعدم اصطدامه مع الغرب، وبمسايرتهم للتخلص من عقوباتهم الاقتصادية، واغماض عينه عما يجري في الجنوب السوري، ويبتعد عن أي ردة فعل قد تحسب على الدولة السورية حالياً، ويبدو أن سياساته متأثرة بسياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فأولى أولوياته تنصب على ترتيب بيته الداخلي، وأن يكون مقتضب في تصريحاته، وبنفس الوقت يسعى جاهداً بأن لا يكرر ما حدث مع الرئيس مرسي في مصر، والغرب يدرك هذه السياسة جيداً.

مع بداية المرحلة الثانية، سارعت إسرائيل مع القوى الغربية بقيادة أمريكا لتجفيف منابع المساندة والدعم الثالث للفلسطينيين، فاستدارت وضربت بقوة أنصار الله الحوثيين، لردعهم عن مساندتهم للفلسطينيين، راجين عودة الملاحة البحرية الى البحر الأحمر، وإعادة سلاسل الامداد والتوريد كما كانت في السابق، وعودة ميناء ايلات للعمل بشكل طبيعي، ولمعالجة مشكلة التضخم التي باتت تؤرق اقتصاد أمريكا وأوروبا في الغرب، وبنفس الوقت هددت إيران بعدم التدخل وعدم مساندة أنصار الله.

بالتالي، اضعاف إيران وأذرعها في المنطقة يساهم ويمكن إسرائيل من عزل حماس، وتنفيذ مشاريعها في الشرق الأوسط، بتهجير أهل غزة واستخراج الغاز مقابل سواحلها، وتحويل غزة الى منتجعات سياحية عالمية، كما أن هذه التطورات تمكن أمريكا من اضعاف الصين وروسيا اقتصاديا من خلال إلغاء طريق الحرير القديم "طريق الحزام والطريق" واستبداله بالطريق البحري المختصر والممتد من الهند نحو المحيط الهندي المار في البحر الأحمر، واستبدال قناة السويس بقناة بن غوريون، لتصبح إسرائيل مركز العالم الاقتصادي، وقلب العالم النابض بالحركة التجارية.

في ظل هذا المشهد الذي تراقب فيه عن كثب الصين وروسيا وتتداخل مصالحها في المنطقة، نجد أن أنصار الله الحوثيين من الصعب هزيمتهم لأن الدعم لا يأتيهم من إيران فقط، انما الصين وروسيا تسعى الى دعم أنصار الله بطريقة خفية غير رسمية، وما السلاح المتطور وصواريخ فرط صوت الموجودة لدى أنصار الله الحوثيين الا دليل دامغ على دعم هذه الدول الخفي لها والتنسيق بينهما، ومن مصلحة روسيا والصين وايران أن يبقى طريق الحزام والحرير موجود لأنه يمثل لهم الرئة يتنفسون بها نحو العالم.

ربما نسير نحو المرحلة الثانية من الحرب الإسرائيلية على فلسطين، ويمكن ان تتوسع الحرب الإسرائيلية على غزة والضفة الغربية الى الإقليم، يرافق ذلك توسع المخاطر الجيوسياسية والتوترات التجارية بين الشرق والغرب، واستمرار هذه المخاطر والتوترات سيؤدي الى عودة التضخم الى مستويات مرتفعة الى العالم، بسبب تعرقل سلاسل الامداد والتوريد وخاصة في البحر الأحمر، وسيزداد التباطؤ الاقتصادي في ظل الحرب التجارية وزيادة التعرفة الجمركية بين الدول، وهذا سيجبر البنوك على تثبيت معدلات الفائدة عند مستويات مرتفعة، وتنخفض إيرادات الدول المجاورة الى فلسطين من السياحة، مما يزيد الأعباء المالية عليها، والضغط على موازناتها، مما سيدفع المؤشرات الاقتصادية بعد منتصف هذا العام الى الانخفاض الحاد ليس فقط على مستوى الإقليم انما على مستوى العالم، لأن هذه الحرب لا يوجد فيها منتصر، واستمرارها سيدفع ثمنه الجميع، والجميع بدون استثناء سيكون الخاسر، مما يعرض الدول في نهاية المطاف الى مخاطر اقتصادية وسياسية كبيرة.
في ظل هذا المشهد الجيوسياسي والاقتصادي المعقد، الدول العربية بحاجة إلى رؤية استراتيجية شاملة تجمع بين تعزيز الأمن القومي والاستقرار الداخلي بتقليل الاعتماد على القوى الخارجية وتحسين الجبهة الداخلية وتجنب الانخراط في الصراعات المسلحة، وأن تعمل على حماية مصالحها الاقتصادية بتنويع مصادر الاستيراد والتصدير وتعزيز الشراكات الاقتصادية الإقليمية، كما عليها تبني ‏دبلوماسية متوازنة كسياسة الحياد الإيجابي ودعم الجهود الدولية لوقف التصعيد في فلسطين والعمل على حل الدولتين وايجاد السلام العادل، وتحفيز الاقتصاد الداخلي عن طريق تعزيز القطاعات الإنتاجية والاستمرار في الإصلاحات الاقتصادية لتقليل تأثير التضخم، وبالتالي ‎المرحلة القادمة ستكون صعبة، لكن التعامل معها بحكمة وبتنسيق عربي ‏مشترك سيقلل من المخاطر ويضمن استقرار المنطقة‎.‎






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد