كوميديا الواقع وملحمة العدل

mainThumb

13-03-2025 03:16 AM

في قلب لندن، حيث التاريخ يلتقي بالحداثة، وحيث عقارب ساعة «بيغ بن» تقيس الزمن بكل دقة، قرر رجل أن يخلط الأوراق ويُدخل المدينة في مشهد لم تألفه من قبل. كان ذلك اليوم الذي اكتشف فيه البريطانيون – بطريقة غير مألوفة تماماً – أن القضية الفلسطينية لا تعرف الحدود، ولا تعترف بالسدود، ولا تخضع لقوانين الجاذبية!
في منطقة البرلمان البريطاني، حيث تُصنع القرارات، تسلل ناشط بهدوء، ربما بابتسامة جانبية تنمّ عن عزمه، وربما بهمّة تسابق الريح. صعد بعض الدرجات، ثم قفز فوق السياج وكأن الحواجز لم تُخلق له. وبينما كان النواب يناقشون قضاياهم العاجلة، كان هو يتسلق «برج إليزابيث» ، الذي يحتضن ساعة بيغ بن الشهيرة، ممسكاً بالعلم الفلسطيني، كما لو أنه كان يتسلق الزمن نفسه، ليُذكّر العالم أن هناك قضية ما زالت تتنفس، رغم محاولات إخمادها.
في لحظة، اهتزت لندن. ارتبك رجال الأمن، جُمدت جلسات البرلمان، وأُغلق جسر ويستمنستر، ذلك الجسر الذي لم يُغلق في وجه مواكب الملوك، لكنه اليوم كان ضحية رجل قرر أن يرفع العلم في سماء عاصمة الضباب البريطاني.
لقد اصطفت تسع مركبات لخدمات الطوارئ على طول شارع بريدج ستريت، وكأنها في طابور صباحي أمام مقهى شعبي. الشرطة هرعت، الحشود تجمعت، وكأن المدينة بأكملها تحولت إلى جمهور يشاهد عرضاً مسرحياً مباغتاً. بعضهم التقط الصور، البعض الآخر تساءل: «هل هذه نسخة بريطانية من سبايدرمان؟».
لكن الرجل لم يكن يبحث عن شهرة أو عن تصفيق، بل كان يحمل رسالة واضحة: «احتجاجاً على قمع الشرطة وعنف الدولة» .
السلطات لم تترك الأمر للقدر. صعدت طواقم الطوارئ في رافعة، محاولين التفاوض مع المتسلق، ربما عرضوا عليه كوب شاي إنكليزي كمكافأة على النزول، أو ربما وعدوه بمقعد في البرلمان ليُعبّر عن قضيته بطريقة أكثر تقليدية. لكن المتسلق كان يعلم أنه كتب فصلاً جديداً في كتاب الاحتجاجات: «كيف ترفع صوتك حينما لا يسمعك أحد؟ اصعد إلى أعلى نقطة ممكنة!».

نزوله مع دقات التاريخ

وبعد 16 ساعة من المقاومة الجوية، ومع دقات بيغ بن في منتصف الليل، بدأ الرجل في النزول، وكأنه أراد أن يُكمل لوحته الرمزية بإيقاع بريطاني أصيل. حين لامست قدماه الأرض، لم يكن مجرد متظاهر انتهت مغامرته، بل أصبح رمزاً للحكايات التي تُروى على المقاهي، وللمقالات التي تُكتب في الصحف، وللأسئلة التي تطرح في البرلمان عن سبب الاحتجاج قبل أن يسألوا كيف تسلق البرج. صورة الرجل وهو يلوّح بالعلم الفلسطيني على ارتفاع شاهق، بينما الساعة الأشهر في العالم تواصل دقّاتها، ليست مجرد لقطة عابرة في يوميات لندن، بل مشهدٌ يصافح الضمير العالمي ويهمس له: «لا تنسَ فلسطين، ولو كنت في قلب بريطانيا» .
هكذا، في مدينة تعوّدت أن تكون المسرح لأحداث العالم، أصبح برج إليزابيث جزءاً من قصة أكبر، قصة شعب يتسلق المستحيل، حتى حين تحاول الأرض أن تثقله بالحواجز.

لبنانياتٌ يحلّقن عالياً: حين يصبح الإنجاز رسالة وأملًا

في عالم تتقاذفه التحديات، وبينما تخوض الرياضة اللبنانية صراعاً دائماً لإثبات ذاتها في ظل الأزمات، ظهر مشهد واحد استطاع أن يخترق الضجيج، مشهد صنعته فتيات منتخب لبنان لكرة السلة تحت 17 سنة، وهن يعدن إلى أرض الوطن حاملات المجد بين أيديهن، والفرح في قلوبهن، بعد أن توّجن أبطالاً في بطولة غرب آسيا.
وصلن إلى مطار بيروت وسط هتافات تتحدى الصمت، وقفزات تُحاكي الأحلام، ودموع امتزجت بين التعب والفخر. مشهدٌ لم يكن مجرد استقبال، بل كان صورة مصغّرة عن إرادة اللبنانيات اللواتي لا يعرفن المستحيل. ففي قاعة الوصول، لم يعد المكان مجرد ممر للمسافرين، بل تحوّل إلى مسرح يحتفل فيه الوطن بمن صنعن مجده في ميادين الرياضة. لم يكن الإنجاز مجرد كأس أو ميدالية، بل رسالة بأن المرأة اللبنانية، رغم كل العقبات، لا تزال تحفر اسمها في سجل البطولات، بعزيمة لا تلين، وبإصرار يتجاوز حدود الملعب ليصل إلى كل فتاة تحلم بأن ترفع علم بلادها عالياً.
ولم يكن هذا الفوز إلا صفحة واحدة من كتاب طويل تكتبه النساء اللبنانيات في عالم الرياضة، حيث الأسماء اللامعة لا تقتصر على كرة السلة وحدها، بل تمتد إلى رفع الأثقال، وألعاب القوى، والسباحة، والرماية، وحتى الرياضات القتالية.
يارا حداد، ابنة الـ 23 عامًا، لم تكتفِ فقط بحمل الأوزان الثقيلة، بل حملت أيضاً اسم لبنان إلى قمة العالم، بعد أن حصلت على لقب بطلة العالم في رفع الأثقال، متخطيةً كل التوقعات، ومتحدّيةً كل العوائق، لتثبت أن القوة لا تكمن فقط في العضلات، بل في الإرادة والتصميم.
أما عزيزة سبيتي، أسرع امرأة في لبنان والعالم العربي وغرب آسيا، فلم تكتفِ بتحقيق الأرقام القياسية، بل اختيرت ضمن لائحة أكثر 100 سيدة تأثيراً وإلهاماً لعام 2023 من قبل «بي بي سي» . وبينما يكتفي البعض بالركض خلف الأحلام، جعلت عزيزة من سرعتها سلاحًا لتحقيقها، ممثلةً لبنان في السباقات العالمية، حيث تُحسب الثواني، وتُكتب الأسماء في سجلات التاريخ.
كذلك راي باسيل، بطلة لبنان والعالم في الرماية، لم تكن مجرّد لاعبة تحمل بندقيتها بدقة، بل كانت مثالًا على أن الرياضة ليست مجرّد منافسة، بل فنٌ وإتقانٌ وثبات. ولن ننسى لتيسيا عون، بطلة آسيا في التايكواندو، التي جسّدت بعنفوانها كيف يمكن للقوة أن تتجلى في رشاقة الحركة ودقة الضربة.
وفي الماء، حيث تتحوّل الحدود إلى أمواج، رفرفت أسماء لين الحاج ممثلة لبنان في السباحة، حيث الزمن هو الخصم، والحركة هي اللغة الوحيدة التي تحدد المنتصر.

سما: عندما تتخطى البصيرة حدود البصر

ولكن من بين كل هذه الأسماء، هناك اسم واحد يخترق القلوب قبل العقول، اسم لا يحمل فقط إنجازاً رياضياً، بل يحمل قصةً تلهم كل من فقد الأمل في مواجهة التحديات. سما، الطفلة ذات الثمانية أعوام، التي أخذت منها الحياة بصرها، لكنها لم تستطع أن تأخذ منها بصيرتها.
رغم كل الصعوبات، رغم العوائق التي كانت كفيلة بإيقاف أي شخص، قررت سما أن تدخل عالم كرة السلة، ليس كلاعبة عادية، بل كمصدر إلهام لكل من يعتقد أن العجز هو في الجسد وليس في الروح. بصوتها، بحسّها، بقدرتها على رؤية ما لا يُرى، أثبتت أن الرياضة ليست حكرًا على المبصرين، وأن الإرادة قادرة على كسر كل القيود.
إن إنجازات هؤلاء البطلات ليست مجرّد أرقام في لوحات النتائج، ولا مجرد لحظات عابرة في نشرات الأخبار. إنها رواية تُكتب يوماَ بعد يوم، عن جيل من النساء اللواتي اخترن المواجهة بدل الاستسلام، والعمل بدل الانتظار، والإنجاز بدل التراجع.
ففي بلدٍ يئن تحت وطأة الأزمات، تُصبح كل ميدالية بمثابة شعاع أمل، وكل فوز هو رسالة بأن لبنان لا يزال حياً، ينبض بشجاعة بناته قبل أبنائه. فهذه الفتيات لم يرفعن الكؤوس فقط، بل رفعن اسم لبنان في ساحات لم يكن ليصل إليها إلا بحلمهن وإصرارهن.
مشهد الفرح في مطار بيروت لم يكن احتفالًا عابرًا، بل دعوة لكل فتاة لبنانية أن تؤمن أن بإمكانها تحقيق المستحيل. ففي وجه كل تحدٍ يقف هناك حلم، وفي قلب كل رياضية لبنانية تنبض عزيمة، وفي كل خطوة تخطوها فتاة على أي ملعب، هناك مستقبل ينتظر أن يُكتب بحروف من ذهب.
هؤلاء النساء، من لاعبات السلة إلى عدّاءات، من سبّاحات المياه إلى راميّات الأهداف، ومن فتاة فقدت بصرها لكنها لم تفقد شغفها، إلى أخرى أُدرج اسمها ضمن الأكثر تأثيرًا في العالم، هنّ لبنان الحقيقي الذي لا يموت، لبنان الذي ينهض كل مرة، لبنان الذي، رغم كل شيء، لا يزال يحلم، ويركض، ويقفز، ويسبح… نحو المجد.

كاتبة لبنانيّة






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد