بين زعامة تُذلّ وقيادة تُكرّم

mainThumb

06-03-2025 02:32 AM

في مشهد لم نره من قبل، بل ولم يتجرأ حتى كتاب الكوميديا السياسية الأكثر خيالاً على تصوّره، تحوّل البيت الأبيض إلى ساحة مدرسة ابتدائية، حيث اجتمع الرئيس الأمريكي ونائبه وبعض الصحافيين، وكأنهم مجموعة من الأولاد المشاغبين، حول الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، الذي بدا وكأنه التلميذ الجديد الذي نُقل فجأة إلى مدرسة مليئة بالمتنمرين.
منذ اللحظة الأولى، كان الجو مشحوناً، لكن ليس بالكهرباء الدبلوماسية، بل بالسخرية اللاذعة والغمزات المتبادلة بين مضيفي البيت الأبيض. لم تكن هناك حاجة لقراءة لغة الجسد أو تحليل نبرة الصوت؛ كان كل شيء واضحاً كوضوح الشمس في سماء البيت الأبيض قبل بدء الغارات الترامبية. لقد تخطى الرئيس الأمريكي كل أعراف اللياقة، وهو يكرر على مسامع زيلنسكي الجملة التي بدت وكأنها شعار اليوم: «عليك أن تكون شاكراً!»، قالها مرة، ثم أعادها، ثم كررها مجدداً، وكأنه يحاول إقناعه، أو ربما اقناع نفسه، بأن الامتنان يجب أن يكون رد الفعل الوحيد المسموح به في هذا المؤتمر الصحافي الفريد من نوعه.
أما نائب الرئيس، فقد بدا وكأنه مدرّب كرة قدم صارم يُلقي توبيخاً علنياً على لاعب خسر المباراة. لقد أطلق العنان لكلمات أقل ما يقال عنها إنها غير دبلوماسية، بل أشبه بملاحظات قاسية من أستاذ جاف الأعصاب لتلميذ نسي دفاتره في البيت. في تلك اللحظة، لم يكن أمام سفيرة أوكرانيا في الولايات المتحدة سوى أن تخبئ وجهها بين يديها، محاولة أن تحتمي من سيل الإهانات، التي وُجّهت لرئيسها. ربما كانت تفكر: «هل هذه جلسة دبلوماسية، أم درس في فن الإذلال العلني؟»
وكأن المشهد لم يكن محرجاً بما يكفي، جاء دور الصحافيين ليضيفوا لمساتهم الخاصة. لقد كان بعضهم أقل احتراماً مما يتطلبه الحدث، ولكن واحداً منهم تفوّق على الجميع بجرأته العجيبة. وسط الحديث عن الاحتلال والموت والمعاناة، وبينما زيلنسكي يحمل في قلبه أوجاع وطنه الذي يُقصف يومياً، قرر هذا الصحافي أن يطرح عليه أعظم سؤال في تاريخ الصحافة الاستقصائية: «لماذا لم ترتدِ بدلة رسمية؟»
هنا، لو كان للمفارقة صوت، لسمعناها تضحك بأعلى صوتها. زيلنسكي، الذي يحمل على كتفيه دولة ممزقة ويخوض حرباً وجودية، وجد نفسه فجأة مضطراً للدفاع عن خياراته في الأزياء، وكأن هذه اللحظة التاريخية كانت حفلاً تنكرياً ضاع فيه عنوان الدعوة.
ربما لو استمر المؤتمر لخمس دقائق إضافية، لسمعنا أسئلة من نوع:
لماذا لم تسرّح شعرك قبل الحضور؟
هل فكّرت في ارتداء ربطة عنق زرقاء لتناسب العلم الأوكراني؟
هل تنوي إطلاق ماركة أزياء جديدة مستوحاة من الحرب؟
لكن زيلنسكي لم يكن ذلك التلميذ الذي ينحني أمام المتنمرين، بل ردّ بسخرية هادئة ذكّرت الجميع أنه قد لا يرتدي بدلة رسمية، لكنه بلا شك يعرف كيف يرتدي الذكاء. عندما سأله الصحافي عن سبب عدم ارتداء البدلة، أجاب بكل بساطة وابتسامة جانبية: «ربما سأرتدي يوماً بدلة تشبه بدلتك، أو أجمل منها، أو حتى أرخص منها».
صفعة ذكية، مغلفة بلباقة، لكنها تحمل في طياتها رسالة عميقة: الرجل الذي لم يرث الملايين ولم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، لا يقيس الآخرين بسعر أزيائهم. فالحرب لا تمنح رفاهية الاختيار بين أرماني وزارا، والقيادة لا تُقاس بلبس البدلات، بل بثقل المواقف.
ربما في المرة المقبلة، سيفهم بعض الصحافيين أن البدلات الرسمية لا تمنح صاحبها مقاماً إن لم يكن يملك أصلاً ما يستحق الاحترام.
لقد كان مشهداً سيظل محفوراً في ذاكرة البيت الأبيض، ليس لأنه جسّد قمة السياسة الدولية، بل لأنه كشف لنا جانباً آخر من القادة والصحافة، جانب مشاغبي المدرسة الذين وجدوا ضحية جديدة لمضايقتها.

تكريم بحجم البطولة

في وطن أنهكته الأزمات وعصفت به المحن، تبقى بعض اللحظات إشراقة أمل وسط العتمة، تشهد على بقاء النبل في زمن الجحود. كان قصر بعبدا في ذلك اليوم مسرحاً لحدث ليس كغيره، لحظة احتضنت فيها الإنسانية بطلاً من أبطال الكلمة والحقيقة، هدى شديد، التي سطّرت بصمودها قصة حياة لا تعرف الانحناء، والتي لم يكسرها المرض كما لم تهزمها الأزمات.
هناك، تحت قبة القصر الرئاسي، وبين جدرانه التي شهدت على الكثير من القرارات والمواقف المصيرية، وقف الرئيس جوزف عون يكرّم امرأةً لم يعرف قاموسها الاستسلام. أمام السيدة الأولى نعمت عون وحشد من الحضور، لم يكن التكريم مجرد درع أو شهادة، بل كان اعترافاً بنضال امرأة جعلت من الألم وقوداً للاستمرار، ومن المحنة طريقًا لصناعة الفرق. كانت اللحظات مشبعة بالمشاعر، والكلمات التي قيلت كانت تخرج من القلب لتلامس قلوب اللبنانيين جميعًا.
لم يكن هذا الموقف مفاجئاً من رئيس أحبّه شعبه، ليس فقط لموقعه القيادي، بل لإنسانيته التي جعلته قريباً من كل لبناني، يشعر بآلامه ويفتخر بإنجازاته. لقد رأى اللبنانيون في جوزف عون قائدًا يعكس الصورة النقية للوطني الحقيقي، ذاك الذي لا يختبئ خلف البروتوكولات، بل يقف حيث يجب أن يكون، مع الناس وبينهم، مدافعًا عن كرامتهم، متمسكًا بمبادئه في وجه التحديات والمخاطر.
أما هدى شديد، فهي لم تكن مجرد إعلامية أو مراسلة، بل كانت جنديًا في معركة الحقيقة، ومقاتلة لم تتخلّ يوماً عن رسالتها رغم كل ما مرّت به. ثلاثون عاماً من العمل الجاد، وسط الحروب والانهيارات، وفي النهاية، وسط معركة شخصية خاضتها مع المرض بشجاعة نادرة. كان جسدها يتعب، لكن روحها لم تهن، كانت تتألم، لكن صوتها لم يخفت.
في لحظة تكريمها، لم تكن وحدها؛ كانت بيروت معها، كان الجنوب والشمال، كان كل بيت لبناني رأى فيها مرآة لصموده. لم يكن التكريم تكريماً لشخصها فقط، بل لكل امرأة صامدة، لكل صحافي حمل الأمانة بصدق، ولكل مقاتل في وجه المرض واليأس.
هذا المشهد، بكل تفاصيله، كان رسالة أمل وعرفان، وكان في الوقت ذاته تأكيداً على أن لبنان، رغم جراحه، لا يزال يعرف كيف يكرّم أبناءه الأوفياء. وحين يكون على رأس هذا التكريم رجل بحجم الرئيس جوزف عون، فإن المعنى يصبح أعمق، لأن من يكرّم الشجعان، لا يكون إلا شجاعاً، ومن يعرف معنى الوفاء، لا يكون إلا ابناً صادقاً لهذا الوطن.

*كاتبة لبنانيّة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد