صحيفة السوسنة الأردنية

أقسى درس يمكن أن تصفع به الحياة أي شخص جزاء اجتهاده وتحلِّيه بالأخلاق الكريمة ومعاملته الحسنة للآخرين، هو الفشل والجحود وممارسة أشد أنواع القسوة ضده، وقد يصل الأمر إلى وقوعه في دوَّامة ظلم لا رادع له. وعلى النقيض، يتربَّع القساة والأشرار على عرش النجاح والهيمنة، بل أيضا يحاول الجميع استرضاءهم، بمن في ذلك من قابلوا معروف الأشخاص الطيبين بالجحود والنكران.
تلك المعضلة لا يزال يقع البشر في براثنها، ولا يعرف من طالتهم المظلومية مكمن الخطأ، فقد دأبت قصص الأطفال والأفلام على تصوير الشرير هو الهالك، والناجي الوحيد هو الطيِّب الذي يضحِّي من أجل الآخرين. لكن ما يحدث في العالم الواقعي مخالف لذلك تماما، لدرجة أن الأشخاص الطيِّبين أصبحوا في نظر الغالبية العظمى، أفرادا شديدي الملل، بل في كثير من الأحيان، منبوذين.
وقبيل الوقوع في براثن الحيرة، أو اللجوء للطب النفسي، قام الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه Frederich Nietzsche (1844-1900) بتقديم تحليل وافٍ لمعضلة الخير والأخلاق التي لا تجلب إلَّا التعاسة لمن يتحلَّى بها. ففي كتابه «هكذا تحدَّث زرادشت» Thus Spake Zarathustra، الذي نشره في أربعة مجلَّدات في الفترة (1883-1885) ناقش على لسان بطله «زرادشت» معضلة الأخلاق وكيفية النجاة في عالم لا يحتفي إلَّا بمن تصبح له الغلبة. ولهذا، ذيَّل عنوان الكتاب بعنوان فرعي يقول «هذا الكتاب يصلح للجميع، لكنه كتاب لا يصلح لأي أحد»، وهذا التناقض ذاته يمكن أن يشرح التناقض الكبير في معضلة الأخلاق، ومن سوف يكلل بالنجاح.
وفي الكتاب، فرَّق «نيتشه» بين أخلاق السادة وأخلاق العبيد. فالسادة يمتلكون الشجاعة والإقدام على انتزاع أمنياتهم، أضف إلى ذلك القدرة على المغامرة بأي شيء من أجل تحقيق الهدف، ما يعنى أنهم قد فهموا معنى التطوُّر الطبيعي، ونظرية البقاء للأصلح، ففي الحياة لا مكان للمترددين أو ذوي القلوب الضعيفة. فعلى سبيل المثال، في الغابة تعيش الحيوانات المتوحِّشة على افتراس أجمل المخلوقات؛ فلا يشعر الأسد بتأنيب ضمير عند افتراس الظبي، وكذلك لا تشعر الأسود بالأسى عندما تنكِّل بالأسد العجوز، حتى يترأس الغابة آخر شاب قادر على السيطرة على الغابة. ومن هذا المنطلق، يجب فهم أن الحياة ليست عادلة، بل إنها تحتفي بمن له القدرة على مجابهتها بشجاعة وخوض المعارك، دون أن يشكو مرارة الهزيمة، أو ينتظر وجود آخر ليقيم له العدالة. وعلى النقيض، أخلاق العبيد من نصيب هؤلاء الذين يعتقدون أن الضعف والخنوع هو وسيلة نجاة في الحياة، وقد يصلون فيها إلى درجة يلعنون فيها القوة والأقوياء، ويجرِّمون جرأتهم، وقد يصموهم بالشر ونشر الشرور، وينعتونهم بالأشرار. وقد يعتقد الضعفاء أن الشكوى التي قد تعطيهم بعض القوة الزائفة، أفضل طريقة للوصول لأهدافهم، بيد أن ما يحدث هو أن تلك القوَّة التي يستمدونها من الارتكان إلى الشكوى والتشكيك فيمن يمتلك القوة، هي في الأساس قوة وهمية وسريعة الزوال؛ فالأقوياء لا يشتكون، بل يغيِّرون واقعهم.
لكن يجب الأخذ في الحسبان أن التاريخ يعج بنماذج كثيرة ممن آثروا القوَّة الغاشمة ذات الشرّ المطلق، الذي لا يعرف إلَّا إعلاء الذات وظلم الآخرين. وهؤلاء كما يشهد التاريخ لم يلقوا إلَّا نهايات مروِّعة، وسرعان ما سقطوا حتى من صفحات التاريخ. فالقوة السيكوباثية التي يتوهَّم فيها القوي أن الطغيان هو السبيل للدوام، لا تقدِّم لصاحبها شيئا سوى السقوط السريع. وبالرجوع لقانون الغاب، فلا نجد الأسد أو الحيوانات المفترسة يفتكون بكل الحيوانات الأضعف منهم دون سبب، فهم لا يجنحون إلى الصيد إلَّا بغرض سد الجوع فقط، ولا يحدث هذا يوميا ودون سبب.
وإذا فهم الإنسان الدرس من نيتشه، فإنه سيعلم أن مبدأ القوَّة التي ينادي بها هذا الفيلسوف هي وسيلة للتسامي والارتقاء بالنفس، وأداة للبعد عن الخنوع المُهين. وبهذا، يمكن أن يتحوَّل الفرد إلى نموذج أعلى وأسمى من الإنسان Übermensch أو كما تمت ترجمته بمصطلح الـ»سوبرمان». فالإنسان السَّامي أو «السوبرمان» كما يصفه نيتشه، هو ذاك الفرد الذي تولَّدت لديه القدرة على «عبور» الجسر، من «المنزل المريح على البحيرة» إلى جبال الاضطراب والعزلة. ويقصد نيتشه بـ»المنزل المريح» هو قبول المرء لكل المفاهيم التي قيلت له، وما تعلَّمه دون أن يعمل عقله، فقد تقبَّل كل التعاليم بأريحية وسهولة وطيش، دون أن يشكك فيها أو حتى يحاول فهمها بطريقة أعمق. وقد يكون لتلك الأسباب أن تلقى الشخصيات الدرامية الشريرة، في الوقت الحالي، قبولا ورواجا، على عكس الموقف العام منها قديما في أفلام الأبيض والأسود. فالسرّ وراء الشخصية الشريرة هو إضفاء العنصر الإنساني لها لتبرير قوَّتها الغاشمة. وقد يكون لهذا السبب أيضا كتاب «الأمير» لنيكولو ميكيافيلي Niccolo Michiavelli (1469-1527) لا يزال يلقى رواجا وقبولا عالميا، حتى في الألفية الثالثة، التي تتميَّز بالتقدم الرقمي غير المسبوق، على الرغم من أنه تمَّت كتابته في القرن السادس عشر. فقد كان ميكيافيلي في تعاليمه يصرّ على الشر، ولكن دون أن يكون مطلقا؛ فهو يصرّ على ما نطلق عليه في ثقافتنا العربية «شعرة معاوية»، أو كما يقول الشاعر أحمد شوقي:
وما نيل المطالب بالتمنِّي … ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وما استعصى على قوم منال … إذا الإقدام كان لهم ركابا
ومن هذا المنطق، يمكن تحليل مسرحية «الملك لير» King Lear لوليام شكسبير William Shakespeare وسوف يكون هذا هو التحليل المنطقي للأحداث. فقد حصر النقَّاد تحليل المسرحية في جانب إنساني اجتماعي، وكانوا دوما يؤكِّدون أن تلك المسرحية الملعونة ـ كما كان يُطلق عليها في السَّابق ـ تدور حول عقوق الأبناء. ورسَّخ هذا المفهوم في عقولهم، احتراق أي مسرح يعيد تقديم تلك المسرحية، ومن هنا تم نعتها بالملعونة. بيد أنه لم يتساءل أحد يوما عن السبب الحقيقي الذي يجعل أبناء ينكِّلون بوالدهم الذي منحهم كل شيء بهذا الشكل. والسر هنا لا يكمن إلَّا في شخصية الوالد الذي اعتقد أن السُّلطة الغاشمة التي لا يمكن أن يراجعه فيها أحد هي النهج القويم الذي يجب أن يتَّبعه. ومن مظاهر تلك السُّلطة الغاشمة قراره الخاطئ بتقسيم مملكته بين بناته، وهو لا يزال على قيد الحياة. والأدهى من هذا، نصيب أيٍّ من بناته لا يحدده إلّا مقدار مداهنتها له، ونطقها بكلمات لحظية تزيد من غروره. ولمَّا جرحت ابنته الصغرى «كورديليا» هذا الغرور، لم يتورَّع في حرمانها من هذا الميراث بكل صلف وطغيان.
وكما يبدو، الخطأ الحقيقي يكمن في أسلوب تربية الوالد لبناته؛ فقد علمهن الأسلوب الميكيافيلي لنيل ما يرومونه، وهذا أمر مفيد لكل من يشغل منصبا سلطويا، أو يتم إعداده له، وبالتأكيد سيصبح أيضا ذا أهمية كبرى لهن عند حكم مملكة والدهم. إلَّا أن ابنتيه الكبريين «جونريل» و»ريجان» تشرَّبتا أيضا أسس السلطة الغاشمة من والدهما. ومن ثمَّ، كما حرم الوالد بكل صلف ابنته الصغرى من الميراث، حرما أيضا والدهما من مملكته. أمَّا بالنسبة لابنته «كورديليا»، فهي الوحيدة التي استطاعت الجمع بين القوة الذاتية والإقدام؛ فلم تخش أن تصارح والدها بخطئه، وكذلك لم تتوان عن الدفاع عن أبيها عندما نكَّلت به بنتاه الكبريان.
وهذا الجانب الإنساني لدى «كورديليا» الشُجاعة، هو الجانب المخفي في شخصية والدها «الملك لير». وبناء على ذلك، فإن السقوط المدوِّي الذي مُنِّيَت به «جونريل» و»ريجان» كان بسبب القيام بإلغاء الجانب الإنساني في شخصيتيهما. في حين لم تصب «الملك لير» إلَّا صدمة نفسية فقط تعافى منها بعد التخلُّص من بنتيه اللتين استولتا على مملكته. وبالنسبة لابنته «كورديليا»، فشجاعتها أهلتها لإحداث تغيير دون الخوض في جدليات لا طائل منها. وحتى موتها في نهاية المسرحية كان عقابَا من أختيها اللتين استولى عليهما الشرّ المطلق، والسبب هو قدرتها على تحقيق أهدافها بكل الطرق، مع ملاحظة أنَّ قوَّتهما الغاشمة لم تساعدهما على مضاهاة أفعالها، بل عجَّلت بسقوطهما. ولهذا، صارت أفعالهما منقوصة، لدرجة أنهما لم تستطيعا التخلُّص من والدهما الذي ذهب عقله، حتى ولو كانتا تطاردانه بجيش.
موت «كورديليا» في نهاية المسرحية في مشهد مؤثِّر يؤكِّد مفهوم أن الدنيا ليست عادلة. لكنها أيضا ماتت بعد تحقيق أهدافها جميعا. ولو كانت عاشت، كان والدها الملك لم يتعلَّم الدرس أبدا، ولربما كان ليعهد لها بحكم مملكته وهو على قيد الحياة، في حين يكتفي هو بالغرور، أي منصب الملك. موت «كورديليا» هو الفرصة الثانية التي يهبها القدر للملك الذي يمتلك جانبا إنسانيا ساميا، علما بأن هذه الفرصة قابلة للزوال بسهولة، إذا أساء استخدامها، بل إن مصيره سوف يكون القتل مثل ابنتيه «جونريل» و»ريجان».
بعيدا عن استغلال النازيين لنظريات نيتشه عن «إرادة القوَّة»، فقد فهم هذا الفيلسوف العبقري النفس البشرية واستشرف المستقبل وكان يؤمن دوما بانتصار الخير الشجاع المغامر على الشر المطلق؛ هذا الخير منشأه قوَّة الأسياد، وليس خنوع العبيد.