بين قيدين

mainThumb

20-02-2025 01:21 AM

كانت شمس الصباح خافتة، كأنها تخشى أن تشرق على قلبٍ أثقلته الليالي. وقفت أمام المرآة، تنظر إلى انعكاس امرأة لا تعرفها. وجهها يحمل خطوط الزمن والألم، وعيناها سراديب تسكنها الدموع التي جفّت ولم تمت. عباءتها السوداء انسدلت كظل الفقد الذي التصق بروحها منذ ذلك اليوم الذي انطفأ فيه عالمها كله تحت سماء غزة المتشحة بالدخان.
في لحظة واحدة، فقدت كل شيء. منزلها صار ركاما، وزوجها وأطفالها غابوا تحت أنقاض الحرب، تاركين قلبها كقبر مفتوح. لا عزاء ولا وداع، فقط صرخات ارتدّت داخلها كأنها عالقة بين الحلق والسماء. منذ ذلك الحين، صارت تعيش نصف حياة… أو ربما موتاً طويلاً يرتدي قناع الحياة.
ولكن في ذلك الصباح، رغم كل السواد، كانت في الهواء رجفة مختلفة، كأن الزمن يتحفّز لمعجزة. جاءها الخبر الذي أفاق شيئاً ما في صدرها: «سيخرج اليوم ضمن الدفعة السادسة من المرحلة الأولى لصفقة التبادل». أخوها… نبض دمها، الذي لم تره منذ سنوات طويلة، كان أسيراً خلف قضبان الاحتلال، يصارع القهر في ظلمة الزنازين، بينما كانت هي تصارع القهر في ظلمة الفقد. في طريقها إلى ساحة اللقاء، كانت الأرض التي داستها أقدامها تحمل ذاكرة الأحبة الذين رحلوا. مرّت قرب شجرة الزيتون التي كان أطفالها يلعبون تحتها، وقرب الحائط الذي خطّت عليه أسماءهم الصغيرة بفرحٍ لم يدرِ أنه سيكون يومًا أثرًا يتيمًا. شعرت بكل تلك الأرواح ترفرف حولها، كأنهم يرافقونها نحو لحظة الحياة التي تأتي من شقوق الموت. وحين وصلت، تداخلت الأصوات والهتافات، لكنها لم تسمع شيئًا. كان العالم كله صامتاً في قلبها إلا من رجفة واحدة: «هل ما زال كما كان؟ وهل ما زلتُ كما كنت؟».
وفجأة، رأته. كان هناك… خارجًا من عتمة القيد، يخطو بثقل السنوات التي سرقتها السجون. لكن عينيه كانتا كما تركتهما، مرآة لطفولتهما المشتركة، ووعداً قديماً بالحياة. للحظة، توقفت الأرض، وكأن الزمان أفسح لهما لحظة خاصة خارج قوانين الكون.
ركضت نحوه. ركضت بكل الوجع، بكل الوحدة، بكل الأسماء التي لم يعد أحد يناديها. وعندما احتضنته، شعرت كأنها تحتضن وطنًا عاد من المنفى. كانت ضئيلة في سوادها، وكان هو هزيلاً من الأسر، لكن بينهما كان الدفء أكبر من الحرب، وأقوى من الغياب.
همس لها وهو يضمها: «أعلم… أعلم كل ما فقدتِ. لكنني عدتُ… عدتُ لكِ، ولأجلهم. عدتُ لنحمل معاً ما بقي منا وما بقي لهم فينا».
أغلقت عينيها على دمعة ساخنة، دمعة ليست للفقد، بل للقاء الذي يجيء، رغم كل شيء. لم يعد للحزن شكلٌ واضح في قلبها. صار مزيجاً من الخسارة والحب، من الغياب والحضور، من الموت والحياة.
في تلك اللحظة، أدركت شيئًا واحدًا: الأسود الذي ترتديه ليس فقط حدادًا على من رحلوا، بل هو أيضاً راية للذين بقوا. وهو لون الأرض حين تُحرَق… ولون الليل قبل أن ينفجر بالصبح.
في اليوم التالي، رآها الناس في شوارع غزة، تمشي إلى جوار أخيها الأسير المحرر. ما زالت ترتدي الأسود، لكنه صار يحمل دفءَ الشمس، ووهجَ العناق، وإرثَ الذين غابوا.
لم تكن تلك نهاية الحكاية، بل بدايتها. فالذين يمشون تحت سماء غزة يعرفون أن الألم ليس هو النهاية أبداً… وأن للقاءات بعد الفقد طعماً يُشبه القيامة.

الأسير… والمحمول

خرج من باب السجن وهو يغمض عينيه قليلاً أمام الشمس التي صارت فجأةً ساطعةً أكثر مما يحتمل. 23 عاماً خلف القضبان جعلت حتى الضوء يبدو له شيئاً غريباً. مدّ خطواته الأولى خارج المعتقل كأنما يسير على قشرة زمن هشّة، وبينما كانت الهتافات تعانق الهواء، كانت روحه تترنّح بين الفرح والحيرة.

مرّت أمامه وجوه كثيرة، بعضها يضحك وبعضها يبكي، وبعضها مشغول… بالتقاط الصور. رفع حاجبيه بدهشة. «هل أصبح التصوير بهذه السهولة؟» تساءل، وهو يلمح عشرات الأيدي ممدودة تحمل مستطيلات زجاجية لامعة تصدر وميضاً غريباً.
لم يمضِ سوى دقائق حتى أُعطي أحد تلك المستطيلات: هاتفٌ حديث لامع. التقطه بين أصابعه كما يمسك شيئًا قابلاً للانفجار. قال له أحدهم بابتسامة واسعة: «هذا هاتفك الجديد… فيه كل شيء!».
تأمل الجهاز بعينين متشككتين، وقلبه ينبض بخوفٍ طفولي. كل شيء؟ كيف يسع كل شيء في هذا الصندوق الزجاجي؟ أهو مصباح علاء الدين؟ أين الفانوس وأين العفريت؟!
مدّ إصبعه المرتعش يضغط على الشاشة، فإذا بها تستجيب وتضيء كعينٍ فتحتها الجنّية. ظهرت أمامه رموز غريبة: كاميرا، تطبيقات، وسهم دائري يدور بلا توقف.
حاول إجراء مكالمة، لكنه اصطدم بجدار أكثر صلابة من جدار زنزانته: قائمة جهات الاتصال. بحث بعينيه عن شيء مألوف، عن قرص يديره كما كان في هاتف البيت العتيق، فلم يجد إلا مربعاتٍ صغيرة بألوان فاقعة.
تقدم منه شاب متحمّس ليعلّمه: «سهل جدًا، عمو! بس اضغط هنا… وبعدين هيك، بعدين هيك… شوف؟».
وقف الأسير مذهولا أمام سرعة أصابع الشاب. كان الشاب يتنقل بين التطبيقات بسرعةٍ تجعله يشعر أنه يتفرج على سحر صيني. ضغط على شيء… فجأة انبعث صوت موسيقى صاخبة من الجهاز. قفز الأسير مرتعبًا، وألقى الهاتف بعيدًا وهو يصيح: يا ساتر! انفجر؟!
وهكذا، جلس تحت شجرة زيتونٍ عتيقة، يكتشف العالم من جديد عبر شاشة صغيرة، ويضحك من نفسه حين يفتح الكاميرا بدلًا من الهاتف، ويصور وجهه بدهشة طفلٍ رأى العالم لأول مرة… لكن في عينيه ظل يسكن أسير قديم لم يحرّره الزمن بعد.

كاتبة لبنانيّة



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد