موت أبيض
كلما برزت عربياً تجربة روائية شابة خارج الوجاهات الوهمية والدعاية الذاتية المفرطة عبر الوسائط الاجتماعية، أحسسنا بأن الرواية العربية بخير، وأن جيلاً واعياً سيحملها على أكتافه ويذهب بها بعيداً نحو مساحات أوسع، لأنه مدرك للعناصر الثقافية والحضارية المؤهلة لذلك.
شاءت صدفة البرنامج التليفزيوني [القلم] الذي كنت أعده وأقدمه في القناة الوطنية الأولى، أن ألتقي بالكاتبة الشابة أميرة حسيني، وكنت قد قرأت روايتها الأولى «غريب في مارسيليا» التي تركت فيّ انطباعاً جميلاً، وتتحدث عن الغربة والخيبة ومعضلة الهوية الوطنية في صراعها مع الذات التي تأتي من القرى التي تشبه المنافي نحو مدن تنزع البراءة الطفولية من قاصديها وتدخلها في سؤال من أكون؟ كيف كنت وكيف أصبحت؟ قبل أن تجهز الغربة المكانية مارسيليا على جزء مهم من داخله، لتنكسر الذات وهي تواجه ريحاً عاصفة لا يمكن مواجهتها بالوسائط البسيطة التي يملكها الفرد. عندما سألتها في البرنامج عن مفهومها للهوية، أجابت: «هي موجودة لكنها تشبه العدم، منزلقة، وفي طور التكوين. كلما حاولنا حصرها انسحبت من بين أيدينا. لا توجد هوية كاملة ومنتهية ما دام البشر يعيشون في المجتمعات وينجزون الأفكار. إذا لم نفهم الهوية في حركتها، حكمنا عليها بالتحلل والموت، بل وتحويلها إلى قنبلة موقوتة. من أكون أنا مثلاً، اليوم، ثمرة هذا العصر؟ شابة جزائرية عربية مسلمة؟ هذا اختزال لهويتي التي تنضح بعناصر أخرى هي حية فيّ، فأنا ابنة أرض أمازيغية، بعض أجدادي من أمي من أندلسيّي تلمسان. جزء من تكويني فرنسي لغوياً، فأنا أستاذة اللغة الفرنسية؟ أين أضع هذه الخيارات التي شكلت الجزء الآخر من هويتي؟ الإنكار هو المدمر وليس محاولة الفهم. نحن لا نختار هويتنا، أو هوياتنا في تعددها، ولكننا نحتويها On l’assume، وهذا ما تتناوله روايتي الأخيرة «موت أبيض».
قرأت الرواية، وكانت بالنسبة لي اكتشافاً جديداً للروائية أميرة حساني، فتأكد لي أن مسارات إبداعاتها الروائية هي رهينة هاجس إبداعي مركزي هو: الهويات القلقة التي تقف وراء الصراعات والحروب القاسية والمدمرة للكيانات المجتمعية. بهذه الرواية، تنتقل الكاتبة الشابة أميرة حساني، إلى مرحلة جديدة في عالمها الروائي، يتعمق أكثر في الجذور التي كثيراً ما نظل تحت جاذبيتها المفرطة سلباً أو إيجاباً. فقد تعمقت في روايتها جذور الاغتراب أكثر، ومختلف المنافي، من المنفى الجسدي إلى المنفى الروحي الأكثر تعقيداً وقسوة. المنفى الذي عانت منه شخصيات رواية «غريب في مارسيليا»، يصبح في رواية «موت أبيض» حالة انكسار عميقة تتعلق بالهويات المرتبكة التي كثيراً ما نظن أنها منجزة ولكننا نكتشف فجأة أن الزمن الكولونيالي القاسي ساهم في إرباكها وتهديمها أحياناً وتحتاج لكي تستقيم إلى ترميمات جوهرية لهذه الهوية بوضعها أمام تاريخها الوهمي أو ذاك الذي ترفض أن تراه.
ثلاثة أجيال تتوارث مأساة الهوية، بكل أسئلتها المعقدة، في هذه الرواية: موسى الجد الذي عاش معاناة المقاومات الأولى التي انتهت به إلى الانتفاضات المتتالية ضد المستعمر الذي لم يتوان عن استعمال كل وسائله لإفشال أي جهد يستعيد موسى من خلاله أمل التحرر، قبل أن يقبض عليه ويبعث نحو منافي كاليدونيا القاسية التي يعتبر الخروج منها حياً شبه مستحيل. لكن على الرغم من ذلك كله، يكسر يقين الاستحالة، وهو المسكون بمنهاج العارفين، ومصنف سيرة الذات الخفية، وطرق السالكين ومعراج الشيخ الأكبر ابن عربي التي حمت هويته من الاندثار. يتزوج بشابة كناكية (من كاليدونيا) فانولي، التي تعيش مأساة أخيها تايا الذي فقد ساقه في حرب غير عادلة. فتنتصر الحياة على الخوف واليأس. وتنجب فانولي زوجته، ابنه الأول: الحسين، الذي هو ثمرة علاقة متداخلة تاريخياً وثقافياً. كانت منافي كاليدونيا بمثابة الموت المرّ لكن إرادة موسى وصبره حولتها إلى لحظة حميمية لزرع الحياة في تاريخه السلالي الذي كاد يتوقف بعيداً عن أرض الوطن.
الجيل الثاني هو جيل الابن، الحسين الذي ولد في المنفى، على أرض غريبة، من أم كناكية، بعيداً عن أرض والديه التي ظلت تتمظهر في شكل حنين متماوج. أحب امرأة من غير دينه، سارة اليهودية، وتزوجها. سارة، هي بدورها تعيش أزمة هوية حقيقية، تحمل في قلبها عذابات العم روني ورجالات كومونة باريس الذين تعرضوا لنفس العذابات مع منفيي المقاومة الجزائرية، والتقوا في نفس المنافي. بين فرنسا وجاذبية قانون كريميو (1870) الذي منح أجدادها حق الاستفادة من الجنسية الفرنسية، تحلم بـ «العودة» إلى أرض «الميعاد» الأرض الهاربة التي زينتها الأساطير. تحسم خوفها، وترحل نحو الأراضي المحتلة بالخصوص بعد وفاة زوجها. وكأني بالكاتبة تواجه شخصياتها بمرايا كاشفة لكي يروا أنفسهم كما هم في الواقع الموضوعي. فقد دخلت في عمق المكونات البنيوية للشخصية الجزائرية بمحمولاتها الثقافية والدينية والقومية في لحظات تأزمها وانفراجها.
الجيل الثالث، من أمثال موسى الحفيد وابن سارة والحسين، وجد أمامه هويات متعانقة صنعتها الحروب القاسية وشجاعة الإنسان. جيل الانفتاحات الكبرى على مكتسبات الثقافة والعلوم الإنسانية والجامعة. فقد تعرف موسى الحفيد على كوكبة من أصدقائه الطلبة في قسم الطب، الذين تعلم منهم الحب والمعرفة كما اكتشف العمق العنصري المخزن لدى الكثير منهم من خلال أناستازيا وصديقها المريض ريتشارد. موسى الذي تجد أمه متعة في مناداته «موشي» يظل يبحث عن طريقه الأسلم، حتى يجده في مسالك جده موسى بعمقه الروحي والصوفي، الذي قاوم الاستعمار وتحمل أكثر المنافي قسوة. من هذه القناعة الثقافية والروحية نفهم جيداً لماذا اختار موسى الحفيد العودة إلى أرض أجداده بالجزائر والعمل بمستشفى جوانفيل، في جناح الطب الاجتماعي الذي أسسه: فرانز فانون، الذي شكل له نموذجاً عالياً. في المستشفى يتعرف على الجزء النضالي السري لصالح تحرير الجزائر، لصديقته راشيل. فقد ظلت تشكل له منارة وحلماً كبيرين بتضحياتها النضالية من أجل الجزائر. ولا يمكن تفسير غيابها بين ثنايا الرواية إلا كونها حلماً جسده النص في النهاية بامتياز [اسم واحد ظل يملأ قلبي وكياني، وحيرتي، كلما حاولت فتح عيني أمام شمس الصباح الحادة: راشيل… راشيل التي سرقت شيئا مني ثم اختفت به].
تتجلى من وراء هذه السردية المتمكنة إشكالات كثيرة تستحق كل الاهتمام: الهوية ومصاعبها وعدم الاكتفاء بحملها، ولكن الذهاب نحوها بعمق، ومساءلتها داخل الاختلاف والرغبة في الفهم. موسى الجد حافظ على هذه الهوية التي حمته من المسخ والمحو الاستعماريين باللجوء إلى ثقافة الزوايا (الرحمانية) والصوفية. سارة، اختارت هويتها التي ورثتها من أمها، وعادت بحثاً عن أرض أخرى وجدتها في الأساطير الدينية. موسى الصغير أو الحفيد، أو «موشي»، عاش مصاعب الهوية المزدوجة، بين أم يهودية وأب مسلم، لكنه تخطاها عن طريق العودة إلى النبع الأول الذي انطلقت منه الحكاية: الجزائر.
بهذا الجهد الروائي المميز، تتخطى الروائية أميرة حساني، عتبات المتداول والمستقر، لتغوص في معضلات العصر الهوياتية التي تقول عالم اليوم المصاب بالإنكار الذي يعتبر الجمرة الأولى لحروب قادمة لا تحكمها إلا شريعة الغاب والتدمير، وربما شكل ما يحدث في [غزة] العتبة الأولى لهذا التدمير الممنهج الذي يعتمد على التفرقة العنصرية والكراهية، والتمايز العرقي والديني والغطرسة.
المعارضة التركية:حملة لسحب الثقة من أردوغان وانتخابات مبكرة
استشهاد 490 طفلاً خلال 20 يوماً في غزة
مصر:أوهام القوة لن تساعد إسرائيل على تحقيق الأمن
كاتس يُبرز وثيقة للسنوار تُثبت تورّط إيران بهجمات 7 أكتوبر
50 دولة تتواصل مع البيت الأبيض لبدء مفاوضات تجارية
الذكاء الاصطناعي يحدث تحولاً في العلاقات الرومانسية
7 مرشحين لمركز نقيب المحامين و49 لعضوية المجلس
تحذيرات من رياح شديدة وغبار في المفرق ومناطق أخرى
مايكروسوفت تقدم مساعدًا ذكياً لتحسين العمل بالمصانع
تربية جرش تبحث الاستعدادات النهائية لاختبار بيزا الدولي
حسان:جهود الحكومة وفّرت 40 مليون دولار سنوياً
هل دفعت السعودية 1.6 مليار ريال كفارة عن إفطار خاطئ
للأردنيين .. تنويه هام بخصوص دوام الخميس
احتراق مركبة في منطقة عبدون بالعاصمة عمان
بينها الأردن .. السعودية تقيّد إصدار التأشيرات لـ14 دولة
محل أحذية في مادبا:أسعارنا أرخص من إيدي كوهين
الحرس الثوري الإيراني يحتجز ناقلتي نفط أجنبيتين بتهمة تهريب الوقود
فيصل القاسم: الأسد كان محقًا وتصريحه صائب ..
بسبب الاشتعال المفاجئ .. تحذير لأصحاب سيارات فورد
تحديد تعرفة بند فرق أسعار الوقود لشهر نيسان
الحالة الجوية المتوقعة للأيام الثلاثة القادمة
موجة خماسينية تضرب المملكة بهذا الموعد .. تفاصيل
التسعيرة المسائية للذهب في الأردن .. تفاصيل
فاجعة عشية ليلة العيد .. 3 وفيات من عائلة واحدة بحادث سير مروع