دعهم ولا تكن أطلس

mainThumb

12-02-2025 10:06 AM

الإحساس بالأمان هو أفضل أنواع الشعور على الإطلاق؛ إلا أن الركن الأساسي لجذبه، والحصول عليه يتطلَّب وجود علاقة بين الفرد والمصدر الرئيسي المانح له. وفي السنوات الأولى من حياة الإنسان يكون هذا المصدر، غالبا، الأم أو الأب أو كليهما. وفي أحوال أخرى، وكذلك في فترات عمرية مختلفة، يصير مصدر الشعور بالأمان شخص خارج نطاق الأسرة، كالمعارف أو الأصدقاء، أو من يكنّ لهم الفرد شعورا ودِّيا وحميميا، ما يعني أن الإحساس بالأمان هو ضرب من ضروب العلاقات التي تتطلَّب طرفا راغبا في تلقِّي ذاك الشعور، وطرفا آخر يلعب دور المانح. قد يظن البعض أن ذاك الأمر بديهي، وكذلك محبب لدى أي فرد راغب في الإحساس بوجود شخص يحميه ويعتني به ويمنحه الرَّاحة كلَّما تأزَّمت الأمور. بيد أن هذا الإحساس قد يتحوَّل إلى كارثة إذا تزايد وفاق حدّ الاعتدال. عندئذٍ تتحوَّل تلك العلاقة الصحيَّة إلى «عقدة التعلُّق».
و»عقدة التعلُّق» تلك حيَّرت الأطباء النفسيين لفترات طويلة؛ وبسببها لم يكن بمقدورهم، إلَّا بصعوبة، تحديد الكثير من حالات الخلل النفسي، لأن مصدر الخلل كان متواريا تقريبا في جميع الأحيان في نقاط خفية مصدرها التعلُّق المرضي. ولذلك، تم طرح نظرية لتسهيل تحديد العطب النفسي، التي تم منحها اسم «نظرية التعلُّق». ومن الجدير بالذكر أن من طرح تلك النظرية الطبيب والمحلل النفسي الإنكليزي جون باولبي John Bowlby (1907-1990) الذي أكَّد أن الارتباط بمقدِّمي الرعاية في مرحلة الطفولة المبكرة يلعب دورا أساسيا في تكوين وتطوُّر الشخصية وردود أفعالها، وله أيضا دور كبير فاعل في الأداء العقلي للأفراد. ويُذكر أن الطبيب والمحلل النفسي الإنكليزي جون باولبي، تمت مهاجمته عند طرح تلك النظرية آنذاك، لكن بعد الدراسة والتمحيص، اكتُشف أن التعلُّق المرضي ركيزة للعديد من ألوان الخلل النفسي، الذي قد يتبلور في شكل خلل فيسيولوجي.
وفي ستينيات وسبعينيات القرن العشرين عملت عالمة النفس ماري إينسوورث Mary Ainsworth على تعميق وتفصيل النظرية، إلى أن تبلورت في الصورة التي تنبلج فيها المفاهيم السائدة عن «عقدة التعلُّق» في عصرنا الحالي.
ودون الخوض في الكثير من التفاصيل، فإن فكرة التعلُّق في حد ذاتها قد لا تتطلَّب حدوث ارتباط قائم على الشعور بين طرفين؛ إذ أنه قد يمتد أيضا لارتباط الشخص بمكان أو شغف فضولي تجاه أشياء بعينها، مثل، على سبيل المثال لا الحصر، الفضول الزائد لمعرفة أخبار الآخرين، أو دسّ الفرد أنفه في شؤونهم. وفي تلك الحالة، يعتبر الفرد أن حصوله على المعلومات، أو السيطرة المبالغ فيها تمنحه شعورا بالأمان والقوَّة، ما يشعره بالاطمئنان، وبالتالي السعادة. وبما أن التعلُّق يتَّخذ أشكالا أكثر تعقيدا، خاصة كلَّما تقدَّمت الحضارة وزاد إحساس الفرد بالوحدة، وعدم الإمساك بزمام أموره وسط عالم يفرض التخبُّط، ظهر في نهاية شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 2024 كتاب لتطوير الذَّات حقق منذ لحظة طرحه في الأسواق نجاحا هائلا، بل أصبح على قائمة الكتب الأكثر مبيعا. وذاك الكتاب بعنوان «نظرية دعهم» The Let Them Theory للكاتبة الصحافية الأمريكية ميل روبينز. ويحاول الكتاب استكمال نظرية التعلُّق وطرق فك التعلُّق بطريقة مفصَّلة تحاول أن تتقصَّى أسباب زيادة الضغط، الذي يقع على الإنسان عند تعلُّقه بفكرة، أو أمر يصير سببا مباشرا لوقوعه تحت طائلة اضطراب نفسي، ولو حتى كان ضئيلا، ما يؤثِّر على السلام النفسي للفرد، وكذلك على كفاءته الإنتاجية في مجالات الحياة كافة.
ولا يقف الكتاب على المراحل الأولى من حياة الإنسان وتبعاتها النفسية في ما بعد، فقد ناقش الكتاب كيفية عدم إلقاء بال لجميع تصرُّفات الآخرين تجاهنا، فعلى سبيل المثال: من يرغب أن يضع الفرد تحت طائلة الضغط، يجب أن يذهله الآخر بمقاومته السلمية. والرَّاغب في أن يظن بآخر ظن سوء، يجب ألا يعيره المكلوم انتباها، ومن يتجاهلنا، حتى لو كان أقرب صديق نبادله ذاك التجاهل بكل هدوء؛ فالثقة بالنفس هي خير وسيلة لتخطِّي أي عقبة. وكذلك يجب أن نعلم أن الحياة ليست عادلة، فهناك دوما أطراف تتحمَّل ضغوطا أكثر من الأخرى، لكن ذلك لا يعني أن يستسلم الطرف الذي في موقف أضعف لتلك الضغوط. ويأتي ذلك كله بفك التعلُّق بأن الصديق دائم، أو أن من تمد له يد العون سوف يصبح نصيرا، أو أنه بإمكان الفرد تحقيق عدالة مطلقة، فكل هذا ضرب من ضروب الخيال، ولن تنجم عنه إلَّا التعاسة الأبدية التي تكبِّل المرء بالاكتئاب والتراجع عن مزاولة الحياة بشكل طبيعي. ويجب أن ينتبه الإنسان لحقيقة أن المحاولات المستميتة لإنقاذ أمر أو علاقة، بدأت تتآكل من العطب سوف تتفتَّق عنها نتائج عكسية تماما، وفي أغلب الأحيان سوف تصير النهاية دمارا شاملا.
والطريف أن تلك الأفكار الحكيمة والنظريات النفسية، التي يُقبل عليها العامة في عصرنا الحديث قد ذكرها الأوائل بالتفصيل، وكذلك بأسلوب أكثر تشويقا، لكنه لم يكن مباشرا، وكأنه دعوة لإعمال العقل حتى تصير الحكمة صالحة لكل العصور. فالتعلُّق وعواقبه السلبية ووجوب فكّ التعلُّق المَرَضي ووجوب عدم الاهتمام بآراء الآخرين، تم تلخيصه في أسطورة «أطلس» الذي حكمت عليه آلهة الإغريق أن يحمل السماء، وأصبح أمثولة لمن يتحمَّل مسؤوليَّات قبل أوانه، وأن يصبح الشخص المعطاء بلا حدود، لدرجة تجعله يدمِّر ذاته، في محاولة نبيلة منه لمد يد العون ولاعتبار آراء الآخرين.
وتحكي أسطورة «أطلس» Atlas عن صراع التيتان مع آلهة الأوليمب، الذي استمر عشر سنوات في حرب ضروس. لكن «أطلس» ابن ملك التيتان «لابيتوس» Lapetus ساعد والده في الحرب، وكان يساعدهم على تحقيق انتصارات بفضل براعته في الرياضيات وعلوم الفلك والكواكب، بل قيل أيضا إنه من اخترع علم الفلك وكذلك هو مؤسس المدارات السماوية، التي ترصد حركة النجوم والكواكب واصطفافها في عنان السماوات، وعلى الرغم من براعة «أطلس»، لكن المعركة في نهاية الأمر حسمها آلهة الأوليمب بانتصار ساحق. فحكم «زيوس» Zeus كبير آلهة الأوليمب على الخاسرين، بمن فيهم شقيق أطلس، بقذفهم في حفرة الجحيم. لكنه استثنى من عقابه هذا «أطلس» بأن عهد له حمل السماوات على كتفيه، فامتثل أطلس للعقاب بكل شجاعة، ولم يفكِّر يوما في التضحيَّات التي قدَّمها للتيتان. وتذكر الأسطورة أنه عندما أتى إليه هرقل، ابن الإله «زيوس»، طالبا يد العون لتحقيق أحد المهام العشر التي كلَّفته بها الآلهة، وافق «أطلس» على الفور، وبذل كل جهده حتى حقق لهرقل مأربه. وفي تلك الأثناء، تولَّى هرقل عبء حمل السماء على كاهله طواعية، وحينها تخلَّص «أطلس» من جميع الأحمال التي على كتفيه.
لقد كان بمقدور «أطلس» الفرار للتخلُّص من العذاب الأبدي، لكن نبل أخلاقه حثَّه على الرجوع. وهرقل الذي وعده مسبَّقا أن يتقاسم معه حمل السماوات حالما رآى «أطلس» أخبره أنه سوف يذهب في مهمة سريعة ويرجع بعدها يتقاسم معه الحمل، لكنه لم يأتِ مرَّة أخرى على الإطلاق. لقد خسر «أطلس» فرصته الأخيرة للنجاة عندما ألقى بالا لآراء الآخرين، وكيف قد تتحوَّل آراؤهم تجاهه. وتحاول الأسطورة أن تنصح بأن الإفراط في العطاء يعلِّم الاستخفاف والاستغلال، وكذلك من وضع نفسه في خانة الأعداء، لن يصبح أبدا صديقا، حتى لو وعد بذلك.
وفي نهاية الأمر، يجب الانتباه إلى أن فك التعلُّق وتجاهل آراء الآخرين قد يصبح سلاحا ذا حدِّين إذا وصل الأمر لحد الإفراط والإدمان، فالرَّاحة النفسية واعتدال المزاج والنتائج الإيجابية لتطبيق تلك النظريات، لن تتحقق إلَّا في حالة الاستخدام الرشيد؛ لأن النتيجة العكسية هي الأنانية الشديدة وعدم الانتماء. فلا تكن مثل «أطلس» وتتحمَّل ما لا تطيق، ولا تصبح «هرقلا» حانثا بالوعد ولا تعتبر إلَّا مصلحتك الشخصية.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد