سيميائية المشهد الأخير في طوفان الأقصى ما بين الثقافي والسياسي

mainThumb

06-02-2025 11:14 AM

الحديث عن أيقونة غزة من شأنه أن يفتح كل الآفاق السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية.. كونها صمدت في وجه حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على القطاع منذ السابع من أكتوبر 2023؛ لا بل وغيرت المفاهيم التضليلية الخاطئة حول القضية الفلسطينية فيما حدّدت مكامنَ الاختلاف في الثنائيات المتوارثة منذ نكبة فلسطين، وعلاقة طرفيّ الصراع بتجاذباتها الثقافية، على نحو ثنائية "الظالم والمظلوم" التي قلب الغرب معاييرها، إلى أن جاء طوفان الأقصى ليفرّق بين الجاني والضحية، على أساس أن المظلوم والمجني عليه هو صاحب الأرض السليبة، وفي ثنائية أخرى هو صاحب الحق مقابل الباطل المدحور.. والمقاوم العنيد في وجه الاحتلال الجائر المهزوم ولو إلى حين.
وقد تجاوز التغيير أحادية "اليهودي الصهيوني" نحو ثنائية "الصهيوني متعدد الطوائف والقوميات واليهودي الخالص" على اعتبار أنه ليس كل من هو يهودي بالضرورة أن يكون صهيونياً، كما هو حال بعض جماعات الحراديم الأرثوذوكسية مثل جماعة ناطورا كارتا الرافضة لوجود "إسرائيل" كونها أقيمت على يد القوميين الملحدين قبل مجيء السيد المسيح، فقد يكون الصهيوني من أصحاب القضية الفلسطينية-وفق ما يرى كثيرون عبر الفضاء الرقمي- وعلى رأسهم سلطة التنسيق الأمني التي نأت بأجهزتها الأمنية عمّا يدور في جنين التي دمرت على رؤوس أهلها، توطئة لتنفيذ دعوات اليمين الإسرائيلي لترحيلهم وسكان غزة إلى مصر والأردن مع رفض الأخيرتين لسياسة ترامب في هذا الاتجاه، مع أن السلطة تعتبر نفسها الحاقنة للدم الفلسطيني من الكوارث.
إن تجربة غزة السيميائية قد ترسّخت ثقافياً، من خلال ما يلي :
- صمود المقاومة منذ حصارها عام 2007.. حيث شهدت أربعة حروب كبرى منذ ذلك التاريخ.
- إلى جانب التفاف الشعب الفلسطيني حول مقاومتهم، وتحمّله فاتورة الدم بصدور رحبة، رغم تشكيك الذباب الإلكتروني المتصهين التابع للوحد 8200 (شاباك) وجوقة المتخاذلين من فتح والسلطة (إلا من رحم ربي).
- رمزية قطاع غزة كجزء من فلسطين المحتلة، الذي دمره الاحتلال على رؤوس أهله، ما استوجب إدانة "إسرائيل" في جرائم إبادة ضد الفلسطينيين من قبل محكمتي العدل والجنايات الدوليتين.
- إنها تلك الأيقونة التي عزلت كيان الاحتلال الإسرائيلي عالمياً، ورسخت محددات السردية الفلسطينية لدحض أوهام السردية الإسرائيلية المُضَلِّلَةُ القائمة على الأكاذيب، وذلك بفعل الوقائع الميدانية على الأرض.
فكات الخيبة من نصيب شمشوم الجبار الذي منحته الأساطير أكبر من حجمه إزاء الفلسطيني المحاصر الصابر على الضيم، والقابض على الجمر، الذي أنهك خصمه المعربد باللكمات حتى خارت قواه على رؤوس الأشهاد وبتوثبق بصري انتشر عبر فضاء رقميٍّ متحرر من قيود الرواية الإسرائيلية ومن يدور في فلكها.. ففي حرب الإرادات لا ينهزم كلّ من يؤمن بحقوقه مهما اشتدت عليه الخطوب.
إنها غزةُ نفسُها التي تمثل رمزاً سيميائياً عالمياً ارتبط بمفاهيم الصبر والتحدي والمقاومة وقوة الحق البائن؛ بسبب انتصار الإرادة على رابع أكبر جيش في العالم. لتنطوي الحرب في غضون 512 يوماً عصيباً أدّى مخاضها إلى ولادة "أيقونة غزة" التي غيرت العالم وأزالت الأقنعة واستلهمتها الأكاديميات العسكرية في العالم وانتشرت في الوعي الجمعي الإنساني كثقافة ملهمة، وكانت خاتمة معاناتها بإبرام صفقة تبادل الأسرى.
لقد تجللت تجربة غزة بدماء الشهداء الأبرار، وسمو الروح والشرف، فيما اكتظت بالرموز السيميائية التي تفاعل معها العالم، وفسرها الشرفاء والمنصفون وفق سردية المظلوم الذي رفض واقعه المهين، والضحية التي اقتصت من قاتلها المتجبر، والمقاوم المتشبث بحقوقه، والذي لم يقبل على نفسه احتساء القهوة مع منتهك أعراضه، حتى تحرر من الأساطير ليخرجَ من تحت الرماد كطائر الفينيق الكنعاني الذي ما يزال يحلق في الفضاء الرقمي بضوابطً فلسطينية.
من هنا راعى منظموعمليات التسليم في غزة المشهدية السيميائية في ترسيخ الانتصار الفلسطيني، وإضفاء الطابع الثقافي الإنساني على إعلان النصر بكل تفاصيله المدروسة جيداً؛ لأن الرموز أشد وقعاً من ثرثرة المعلقين والمعقبين المنتشرين في القنوات المجيرة للرواية الإسرائيلية المتخمة بالأكاذيب، وذلك من أجل بناء رواية ذات مصداقية تعتمد على مقايس النصر المعترف بها لدى الأكاديميات العسكرية، في أن المهزوم هو القوي الذي فشل في تحقيق أهدافه لصالح أهداف الطرف الأضعف.. مع تهميش الخسائر البشرية على اعتبار أنّها حاصلٌ موضوعيٌّ لمعركة التحرير.
لذلك فإن جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي يعد رابع أقوى جيش في العالم، والمدعوم من القوى العظمى، فشل في تحقيق أهدافه المعلنة والمتمثلة بما يلي:
- احتلال قطاع غزة
- اجتثاث حماس
- تحرير الأسرى بالقوة..
- تهجير الفلسطينيين إلى سيناء أو الأردن أو جزر الواق واق الخيالية بشتى السبل سواء كان ذلك بقوة السلاح، أو ضمن خيارات المقامر الأشقر دوناند ترامب الذي يتعامل مع قطاع غزة كعقار استثماري، فيما يرى بأن الفلسطينيين مجرد أرقام أو حيوانات معدومة الحقوق.. وهذا خيار اصطدم بمشهد عودة الفلسطينيين إلى ديارهم شمال القطاع في رمزية رسخت لحق العودة في صورة مصغرة للعودة الكبرى بعد تحرير فلسطين من نير الاحتلال.
وقد توعدت حماس مواجهة مشروع الرافيرا الذي بشر به المقاول ترامب ولو بالحديد والنار .
مقابل ذلك تمكنت حماس من فرض شروطها المتعلقة بإطلاق سراح أسراها وخاصة المحكومين بالمؤبدات دون تمييز فصائلي.
وبسبب صمود المقاومة وتطور عملياتها النوعية التي كبدت جيش الاحتلال خسائر طائلة في الأفراد والمعدات، واشتداد المظاهرات في تل أبيب المطالبة بصفقة أسرى واتهام نتنياهو بتعطيلها، بالإضافة إلى ضغوطات ترامب على نتنياهو للقبول بالصفقة تم تنفيذ المرحلة الأولى منها في مشهدية إعلامية جيرت لصالح المقاومة في غزة، من حيث التنظيم وظهور قوات الظل بكثافة وبكامل عتادها، ما لفت انتباه العالم الذي أدرج عمليات التسليم في سياق إنساني منصف وشديد الرقيّ.
وقد حملت عمليات التسليم عدة رسائل سيميائية مشفرة موجهة إلى الفلسطينيين والإسرائيليين على حدٍّ سواء، لتثبت لهم بأن المقاومة وخاصة حماس أعادت تنظيم نفسها باقتدار، فيما هي قادرة على السيطرة على القطاع استعداداً لما بعد انتهاء الحرب، وأنها حافظت على الأسرى وفق المبادئ الإسلامية.. أما استشهاد قادة الصف الأول لحركة حماس فلم يؤثر عل بنية كتائب القسام لا بل زادها قوة ورشاد.. وقد أثبتت كذب نتنياهو الذي ظل يدعي بأنه حقق النصر المطلق.
وزاد من زخم الرسائل والرموز الفلسطينية في مشهدية التسليم اكتظاظ الفلسطينيين في الموقع أثناء تسليم الأسرى.
ولتفسير النتائج التي تجلت بصفقة تبادل الأسرى، لا بد من الحديث عن سيميائية المشهد الأخير المكتنز بالإشارات والرموز التي من شأنها أن تساعد على ترسيخ السردية الفلسطينية باقتدار.. ويمكن تقسيم هذه الرموز إلى ما يلي:
أولاً: سيميائية الهوية مثل الكوفية وعلم فلسطين وخارطة فلسطين التاريخية.
ثانياً: وحدة الساحات من خلال رفع أعلام فلسطين والفصائل المشاركة مثل حماس وسرايا القدس، وأعلام الفصائل المساندة وصور زعمائها مثل حزب الله وصورة الشهيد حسن نصر الله وأنصار الله وصورة زعيمها عبد الملك الحوثي.
ثالثاً: رموز نجاح عملية السابع من أكتوبر التي غيرت العالم، من خلال استخدام ما غنمته المقاومة أثناء تنفيذ الهجوم بتجاوز أعلى التقنيات الأمنية الإسرائيلية تطوراً وأسر 251 إسرائيلياً وفق البيانات الإسرائيلية.. وقصف العمق الإسرائيلي ب 500 صاروخاً صنعت محلياً واغتنام أسلحة وسيارات ووثائق كانت محفوظة في مركز الوحدة 8002 التابعة للشاباك وذات صلة بالأجهزة الأمنية الإسرائيلية وقد ظهرت نماذج من هذه الغنائم مع مقاتلي وحدة الظل أثناء تسليم الأسرى على النحو الآتي:
- أسلحة من طراز "تافور" الإسرائيلي.
- السيارة التي تم بها نقل الأسيريْن (عوفر كالديرون) و(ياردين بيباس) من قبل القسام في مدينة خان يونس، وهي سيارة سوداء كبيرة من طراز (RAM). حيث اعترفت صحيفة معاريف، إنها كانت ضمن السيارات التي حصلت عليها قوات النخبة في القسام ضمن عملية طوفان الأقصى.
رابعاً: وإمعاناً في رمزية الانتصار وتحطيم هيبة جيش الاحتلال فقد وضعت "القسام" شعارات أربع فرق عسكرية لجيش الاحتلال، بالإضافة إلى جهازين استخباريين، ضمن اللوحة التي غطت بها المنصة، للإشارة إلى الفرق التي تكبدت خسائر ثقيلة وغير مسبوقة في تاريخها، خلال العدوان على غزة.. وهي:
- الفرقة 36 "البركان"
- الفرقة 98 "تشكيل النار"
- الفرقة 162 "الحديد الصلب"
- فرقة غزة "ثعلب النار"
- وحدة الشاباك، التي فشلت استخبارياً في طوفان الأقصى حيث تمثلت خسائرها بمصادرة أهم الوثائق بعد اقتحام مركزها عند معبر بيت حانون.. والتخلص من العديد من عملائها أثناء حرب الإبادة، فضلاً عن تشغيل عدد منهم عملاءَ مزدوجين لصالح المقاومة.
- الوحدة 8200 : وهي فيلق استخباري للاحتلال يعرف باسم "سيغينت"، مسؤول عن عمليات التجسس الإلكتروني، عبر جمع الإشارات وفك الشيفرات، وقيادة الحرب الإلكترونية وعمليات الاختراق للاحتلال.
وتعرضت الوحدة لضربة كبيرة في عملية طوفان الأقصى، بعد تضليلها من قبل المقاومة، رغم رصدها مؤشرات على احتمالية القيام بعملية كبيرة، فيما كشفت كتائب القسام، عن اختراقها أحد خوادم الوحدة إلكترونيا، والكشف عن وثيقة تؤكد تجهيز الاحتلال لضربة كبيرة للمقاومة في قطاع غزة، تشمل هجوما جويا عنيفا، يتبعه غزو بري.
رابعاً صور شهداء قادة حماس وكأنهم حضروا من الغياب لقيادة المشهد الأخير.. وتجدر الإشارة إلى أهم صورتين للشهيد يحيى السنوار، وهما أيقونتان كان لهما عظيم الأثر على الوعي الإنساني، الأولى كانت وهو يقاوم بعصاه حتى الرمق الأخير بينما هو جالس على الكنبة.. والثانية أثناء تجواله في غزة وهو يقرأ بيت الشعر الأشهر لشوقي:
"وَلِلحُرِّيَّةِ الحمراءَ بابٌ بكلِّ يدٍ مضرجةٍ يُدَقُّ"
خامساً: صورة ركام غزة التي مثلت خلفية كل المشاهد تعبيراً عن جرائم الاحتلال.. ودلالة على حق إعادة إعمار قطاع غزة وفق الشروط الفلسطينية.
سادساً: السيطرة والضبط على عمليات التسليم، من خلال تسليم الأسرى انطلاقاً من عدة أماكن في إشارة مدروسة إلى سيطرة المقاومة وخاصة حماس على أرجاء القطاع.
وإثبات أن الاحتلال اٌلإسرائيلي للقطاع كان منقوصاً وأن حماس ما زالت تحتل مدينة الأنفاق تحت الأرض (بطول 500 كم)، التي شكلت معجزة النصر،.
وأنها ما زالت تسيطر على زمام الأمور كما صرح أحد الأسرى الإسرائيليين للقناة 12 بأنه"من قال بأن حماس مدمرة ويمكن القضاء عليها فهي كانت تسيطر على زمام الأمور.
الرهانات على اليوم التالي للحرب مرهونة بصاحب الإرادة الأقوى بعيداً عن جعجعة الاحتلال المدعوم من قبل ترامب صاحب مشروع التهجير المستحيل.
6 فبراير 2025
#حماس #نتنياهو #ترامب #غزة #تهجير_الفلسطينيين






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد