المأساة الكوميدية: بلزاك

mainThumb

04-02-2025 02:58 PM

الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه الذي كانت فلسفته النبراس، الذي وضع أسس الفكر خلال القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين، كان طوال حياته يلح على فكرة واحدة؛ ألا وهي امتلاك الإرادة الحرَّة التي تكون بمثابة طوق النجاة الذي ينقذ أي فرد من التبعية لأي فرد أو جماعة أو منظومة، لكي يضمن الفرد حرِّية أبدية، وكنتيجة لذلك، يقفز الفرد إلى منصَّة التفرُّد والتميُّز، أو كما يقول «نيتشه»: «العقل الحر الذي لم يتعوّد على تبعيّة أحد، يُحدث ضجيجا أينما حلّ!».
لقد كان ذلك حال الكاتب والمفكِّر الإنساني الفرنسي الشهير أونوريه دي بلزاك Honoré de Balzac (1799-1850) الذي كانت حياته القصيرة نسبيا أنموذجا عمليا للإرادة الحرَّة، التي استطاعت أن تصول وتجول في سماوات من الحرِّية على الرغم من قسوة الظروف التي أحاطت به من كل جانب، ولن تهنأ إلَّا بعد أن اقتنصت روحه واقتلعتها.
افتقد بلزاك نعمة الإحساس بالعائلة منذ الصغر؛ فوالده صعد من الطبقة الكادحة إلى البورجوازية، بعد أن استطاع أن يعمل في منصب إداري في البلاط الملكي، لكن لم يكن هذا في صالح بلزاك؛ فقد انخرط والداه في حياة الطبقة البورجوازية التي تعشق المظاهر، لدرجة أنهما أرسلاه هو وأخته للعيش مع مربِّية، وتلك عادة اكتسبها أبناء الطبقة الرَّاقية، إثر قراءة رواية «إيميلي» للفيلسوف الجنيفي جان جاك روسو-Jacques Rousseau. امتدَّت فترة إقامة الشقيقين مع المربية لأربع سنوات، ذاق فيها بلزاك طعم القسوة والشعور بالاغتراب والوحدة، وفي الوقت نفسه ولَّدت في روحه الرغبة العارمة في الحفاظ على إرادته الحرَّة وحريَّته، مهما كانت الظروف. وفيما يبدو أن والده الذي كان يحاول أن يسير على خطى المجتمع الباريسي المُترف، لم ينسَ أصله الفقير الكادح. ولهذا، عندما أرسل ابنه إلى مدرسة الخطابة الابتدائية، التي يرتادها أبناء الطبقة الراقية، حاول أن يجعل ولده بعيدا عن مفاسد المال، والانزلاق لحياة من اللهو لا رجعة فيها، كعادة الباريسيين من أبناء الطبقات الميسورة. ولهذا، حرص أن يقتِّره بالمال. لكن ما حدث هو أن صار ابنه مادة للسخرية من زملائه الأكثر ثراء، الذين لم يرحموه، ما جعل بلزاك منذ نعومة أظفاره يدرك مدى تردِّي النفس الإنسانية في جميع الطبقات.
ولم تقف معاناته في طفولته عند ذاك الحد، فقد كان نزيلا مستمرا على غرف العقاب التي يحبس فيها منفردا بشكل شبه دائم، لدرجة أنه بعد أن علا نجمه ولمع في عالم الأدب سأل أحدهم حارس مدرسته، عمَّا إذا كان يتذكَّر التلميذ بلزاك، رد عليه الحارس على الفور بقوله إنه يتذكَّره بكل تأكيد؛ حيث إنه اعتاد أن يصطحبه مئات المرَّات لغرفة العقاب الانفرادي التي تدعى «الزنزانة». لكن التلميذ الألمعي أونوريه لم يستطع أي حادث أن يقتص من روحه، فقد استغل كل فترات محبسه في القراءة النهمة لجميع ألوان الكتب الموجودة أمامه؛ فقرأ كتبا في الأدب والتاريخ والعلوم، بل حينما لم يجد كتبا جديدة، كان يقرأ قواميس اللغة والمعاجم، إلى أن قرأها جميعا من أولها إلى آخرها.
فقد صار محبسه القاعدة التي ارتكزت عليها موهبته الإبداعية، وفتحت عينه منذ الطفولة على النفس البشرية وتقلُّباتها. بيد أنها كانت أيضا عاملا رئيسيا في تأصيل إصابته بأمراض صدرية عضال، أثَّرت على صحته طوال حياته، ما جعل المرض يلازمه، ليتسبب في موته وهو في الواحدة والخمسين من عمره فقط. وإثر تدهور حالته الصحية، أخرجه والده من المدرسة، وعهد تعليمه لمعلِّمين خصوصيين.
لقد فشل بلزاك في جميع الأعمال التي حاول أن يأخذ منها حرفة أساسية، إلى جانب الكتابة؛ فقد فشل في مهنة المحاماة، أو بالأحرى تركها على الرغم من تعلُّمه القانون وتلقيه تدريبا راقيا لكي يصير محاميا. لكنه ترك مزاولة المهنة؛ لأن قلبه الرقيق لم يحتمل أن يرى جميع المآسي البشرية التي ترد على مكاتب المحاماة، وكذلك لم يحتمل ألاعيب المحامين في قلب الحقائق ونصرة الظالم، في بعض الأحيان. وعلى المنوال نفسه، فشل في قيادة أي مشروع تجاري، وانتهى به الحال مدانا لوالدته بمبلغ كبير من المال. لكنه في خضم محاولات اختراق الحياة العملية، كان يمارس الكتابة بانتظام وبنهم شديد، ما نجم عنه غزارة في الإنتاج. وتكمن أهمية التراث الأدبي الفريد الذي تركه بلزاك في ريادته لتيَّار الكتابة الواقعية، التي أخرجت فرنسا والعالم الغربي من حقبة الرومانسية. ومن الجدير بالذكر أن أسلوبه في الكتابة هو الذي أثَّر على أسلوب جميع الكتَّاب العالميين الذين اهتموا بتيَّار الواقعية، مثل الكاتب الإنكليزي تشارلز ديكنز، والفرنسي مارسيل بروست، وكذلك غوستاف فلوبير، وإيميل زولا، والكاتب الإنكليزي الأصل الأمريكي الجنسية هنري جيمس، وغيرهم الكثير.
ولم يقف تأثير بلزاك على عالم الأدب فقط، بل امتد للفن خاصة الفن السينمائي الحديث الذي يعنى بتيَّار الواقعية. ومن المخرجين الذين تأثَّروا بأسلوبه، المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو، وكذلك المخرج جاك ريفيت. وإشادة بتأثره الشديد وعبقريته، كان هنري جيمس يقول مؤكِّدًا «بلزاك هو أب الجميع»، أي رائد جميع العاملين في مجال الإبداع.
كان بلزاك يكتب ببساطة عن جميع تجاربه ومآسي من حوله، لكنه كان يكتب بعين الناقد الخبير، وبحس الإنسان المرهف، الذي تذوَّق ألوانا من المأساة والإخفاقات، وأراد أن يثور على ما يشوب المجتمع البورجوازي من أنانية وسطحية وقسوة. لقد كتب عن فترة طفولته، ومدى قسوة المربيَّات، وأثر ترك الوالدين لأبنائهما، بحجة أنهما يعهدا تربيتهما لآخرين، كما تملي العادات الحديثة للمجتمعات الرَّاقية. وكذلك كتب عن مآسي البشر من قمةَّ المجتمع إلى قاعه؛ لأنه بالفعل عاش حياة من الترف، وأخرى من الفقر. لكن المميَّز في أسلوبه، أنه كان يكتب بلا تكلُّف لدرجة تجعل القارئ يتماهى مع أعماله التي كانت تدور في إطار ساخر قد يجنح للكوميديا السوداء، عند التعليق على ما يشوب المجتمع من أمراض وقسوة تجعل حياة البشر تعيسة لا تطاق. وشعوره بالوحدة الذي كان يستثمره في القراءة النهمة في طفولته، وانبلج في أسلوبه في الكتابة، ظل يلازمه طوال العمر. فقد كان لا يطيقه، لكن كان يجبر نفسه على المرونة وعدم الاستسلام. ولعل من أشهر أقواله الساخرة في هذا الشأن: «الوحدة جيِّدة، لكنك تحتاج من يخبرك بذلك»، أي أنه يجب أن يكون الإنسان محاطًا ولو حتى برفقة أحدهم.
وأكثر ما يميِّز النموذج الإبداعي الواقعي لأعمال بلزاك هو البناء الدرامي للرواية، والتفاصيل الدقيقة لجميع الشخصيَّات، حتى ولو كانت ثانوية. فالشخصيات لديه، على عكس السائد في تلك الفترة وفي أعمال التالين له، تقع في المنطقة الرمادية، على غرار الأعمال الواقعية في عصرنا الحالي. فالشخصيات، ولو حتى كانت ثانوية شريرة، فإنه يغوص في تفاصيلها الدقيقة التي قد تكشف وجهًا آخر، أو أبعاداً أخرى تتسم بالرومانسية والطيبة. أمَّا ما لم يستطع أن يماريه فيه أحد، هو أنه جعل شخوص رواياته تتنقَّل فيما بين أعماله، وكأنه يكتب عن الكون وتلاقي وافتراق البشر فيه؛ فمن كانت شخصية ثانوية في أحد أعماله قد تظهر بطلًا في عمل آخر. وكأن غرضه من ذلك هو التأكيد على أن الحياة البشرية متشابكة ومعقَّدة التركيب.
ومن أعظم أعماله الشهيرة التي لا يزال عنوانها متداولا إلى وقتنا هذا ويتناقلها الجميع كمقولة شعبية هو «الكوميديا الإنسانية» التي كتبها في الفترة ما بين «1829-1848»، وهي ليست عملا واحدا، بل مجموعة من المؤلَّفات الأدبية المترابطة من الروايات والقصص التي تأتي تحت هذا العنوان؛ لكي تصوِّر المجتمع الفرنسي في حقبة «استعادة الملكية» (1815-1830) والعصر الملكي الدستوري التحرري المعروف باسم: «ملكية يوليو» July Monarchy (1830-1848). وتتألَّف «الكوميديا الإنسانية» من 91 عملا أدبيا مكتملا من قصص وروايات ومقالات تحليلية، بالإضافة إلى 46 عملا لم يمهل القدر بلزاك لأن يكملهما؛ فبعضها مرفق كمجرَّد اسم فقط. وتجدر الإشارة إلى أن ذاك المؤلَّف لم يشتمل على باقي أعمال بلزاك المسرحية والكوميدية، ما يوضِّح أن إنتاجه الغزير يفيض ويتشعَّب.
مات بلزاك بعد أن تمكَّنت الغرغرينا من قتل جسده؛ فاستسقاء الرئة الذي جعل أطبَّاء هذا العصر يسحبون السوائل من رئته من خلال ثقبها بمسامير، أفضى إلى تلوُّث الجروح وإصابته بالغرغرينا التي أتت على جسده، لكنها لم تضع حدّا لحسِّه السَّاخر وكوميديته السوداء. كانت الموهبة الأدبية لبلزاك وسيلته الصادقة للتواصل مع مآسي البشر، فكان يعتقد أن «الحرف هو الروح، وهو صدى صادق للصوت الناطق، لدرجة أن مرهفي الحسّ يعتبرونه واحدا من أغنى كنوز الحب». أما بلزاك، فهو يرى أن الحب الحقيقي أبدي، لا نهاية له، ويشبه نفسه دائما. وأن «الحب دائما نقي ويقف على قدم المساواة، دون أي محاولة عنيفة لإظهار ذلك، كما لو كان إنسانا شعره أبيض، لكن قلبه دائم الشباب». عشق بلزاك البشرية على الرغم من قسوة القدر عليه، وبادله البشر العشق بسبب صدق تجربته التي تضع الفرد على مسار الحرِّية من خلال ممارسة الإرادة الحرَّة، وكذلك بسبب محاولاته الدؤوب ليهوِّن على البشر بتصوير أن حياة الإنسان المأساوية ما هي إلا كوميديا سوداء.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد