عندما ينادي الشبيحة بالديمقراطية

mainThumb

01-02-2025 02:35 PM

لم نتوقف منذ أكثر من ثلاثين عاماً عن جلد الديكتاتوريات والطغاة والأنظمة العسكرية والأمنية، وكنا وما زلنا نطالب بأنظمة ديمقراطية مدنية وعدالة اجتماعية وحريات وحماية كل المكونات وبناء دول لكل أبنائها ودساتير حقيقية يعمل تحتها الحاكم والمحكوم، ولن نتوقف حتى نحقق تلك الأمنيات الصعبة مهما طال الزمن، لكن لو سألت غالبية السوريين اليوم اللاجئين منهم والنازحين وحتى العاديين ماذا تريدون أولاً، فبالتأكيد سيطالب اللاجئون والنازحون بالداخل والخارج بتأمين ظروف العودة إلى بلدهم وبيوتهم، وهي بالمناسبة مدمرة وغير صالحة للعيش فيها، كما أنهم سيطالبون بأبسط مستلزمات الحياة، خاصة وأن رغيف الخبز كان صعب المنال في عهد النظام الساقط، وكل السوريين في الداخل كانوا يعانون الأمرين لتأمين كيلو خبز، لا سيما وأن زوجة بشار التي كان يلقبها السوريون بماري أنطوانيت الشام تاجرت حتى بلقمة عيش السوريين، وكانت تشاركهم في كل حبة أرز يأكلونها، فوضعت كل المواد الاستهلاكية الأساسية تحت ما يسمى البطاقة الذكية التي كان يحصل الناس بموجبها حتى على رغيف الخبز.
تصوروا أنكم للحصول على حصتكم المحددة والمقننة يجب أن تخضعوا للبطاقة، التي تحدد لكم وقت الحصول على الخبز وحتى عدد الأرغفة لكل عائلة، وهو ما لم يحصل في أي مكان، فما بالكم في سوريا التي لديها الإمكانية لتصدير القمح لبلدان عدة. فكيف بالله عليكم يمكن أن يطالب مواطن سوري مسحوق بتطبيق الرفاهيات السياسية في البلاد كالانتخابات والدستور والدولة المدنية والعلمانية والديمقراطية وهو لا يجد لقمة الخبر؟ مستحيل، لكن مع ذلك ورغم قساوة الوضع المعيشي والخدمي والأمني في سوريا، بدأت تظهر هناك بعض الأصوات التي تريد حرق المراحل كوضع دستور جديد بسرعة البرق وإجراء انتخابات عاجلة، لا بل إن بعضهم خرج إلى ساحة الأمويين ليطالب بحريات ربما يسخر منها الأوروبيون أنفسهم. وللغرابة فإن معظم المطالبين بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية العاجلة إما كان موالياً أو مستفيداً من النظام أو غير متأثر بالكارثة التي ضربت سوريا والسوريين أو متفذلكين أو سفسطائيين أو علمانجيين يتاجرون بالعلمانية، أو طائفيين، أو انفصاليين أو خاسرين من سقوط النظام أو متسكعين في مواقع التواصل أو كارهين للقيادة الجديدة في سوريا، هؤلاء فقط هم الذين يطالبون بأشياء مستحيلة الآن.

وسنحسن النية وسنقول إن كل تلك المطالب التي تندرج تحت عباءة الديمقراطية مطالب محقة، ولا شك أن كل السوريين يطمحون للحصول عليها بعد عقود من العيش تحت أبشع ديكتاتورية عرفها القرنان العشرون والواحد والعشرون. لكن لو نظرنا إلى نوعية الأصوات التي تملأ الدنيا ضجيجاً اليوم على مواقع التواصل وحتى في الساحات العامة للمطالبة بالحريات والدولة المدنية سنرى أنها كانت في معظمها تعمل بوظيفة شبيحة دعماً للنظام الساقط أو فئات خاسرة من سقوطه، فهم لا يعرفون أصلاً معنى ديمقراطية ولا مدنية ولا علمانية، ولم يمارسوها طيلة حياتهم، لأنهم كرسوا أعمارهم ليكونوا مجرد أدوات في أيدي الطاغية لذبح السوريين وقهرهم وقمعهم وسحقهم تعذيبهم والتنكيل بهم بأبشع الأساليب والوسائل، وكلنا شاهد عمليات التعذيب في أسوأ سجون عرفها العالم كصيدنايا وفلسطين والمزة. ومن بين المطالبين بالانتخابات أيضاً ليس فقط شبيحة وجلادين، بل كتاب وإعلاميون وإعلاميات وفنانون وفنانات أمضوا حياتهم في صحافة الرأي الواحد، ولم يستطيعوا طوال عمرهم أن يقولوا أو يكتبوا كلمة صدق واحدة، لأنهم كانوا مجرد أبواق رخيصة تردد كل أنواع الكذب والنفاق والدجل والفبركات التي كان يتقيأها إعلام النظام الساقط على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان. تصوروا أن يخرج لكم إعلامي يعمل بوظيفة شبيح منذ سنوات ليطالب بالحرية الإعلامية والشفافية في سوريا الجديدة.
والله لا يمكن لنا إلا أن نقلب على ظهورنا من الضحك على هذا الرهط من الشبيحة والرديحة. قال شو قال: يريدون حريات، وهم الذين كانوا يدسون على أبسط أنواع الحريات، ولا يسمحون لأحد أن يتكلم حتى عن أسعار الفجل والخس والطماطم. لكن ما شاء الله بمجرد أن سقط نظامهم الفاشي تحول كل واحد منهم إلى مونتسكيو أو جان جاك روسو عصره، فصار ينظّر على السوريين بالديمقراطية وراح يحدثنا عن فضائل المجتمع المفتوح لكارل بوبر.
لقد عاش هؤلاء الأفاقون الذين يطالبون بالديمقراطية اليوم، عشرات السنين وهم غير قادرين على فتح أفواههم إلا عند طبيب الأسنان فيما كان يسمى بسوريا الأسد، لكن في اللحظة التي تحرر فيها الشعب السوري من أسوأ طغيان عربي، راحوا يرفعون أصواتهم ويطالبون بأنواع الحريات البشرية والحيوانية بلمح البصر. كل ذلك ليس لأنهم يريدون الديمقراطية للسوريين، بل لأنهم يريدون إحراج الإدارة الجديدة والانقلاب على الانتصار العظيم. لكن هيهات، فإن عقارب الساعة لا ترجع إلى الوراء. وهذا لا يعني مطلقاً أن السوريين اليوم لا يريدون الديمقراطية والحريات والانتخابات الحرة بل يريدونها البارحة قبل اليوم، لكن هل هناك أي بديل الآن عن تعيين قيادة مؤقتة في ظل استحالة إجراء أي استفتاء أو انتخابات نتيجة الوضع الميداني والتقني في سوريا؟ أليس من الطبيعي أن مَن قاد عملية إسقاط النظام يتولى قيادة سوريا المحررة؟ أليست الشرعية في زمن الفوضى هي لمن يمتلك قوة فرض الأمن وبناء الدولة؟ أليس تعيين رئيس جديد لسوريا ضرورة قانونيّة من أجل الاعتراف الدوليّ، لأن الفارّ مازال في القانون الدوليّ رئيسَ سوريّا حتّى ثوان من مؤتمر النصر؟ ألا يقول المثل الشعبي: «كل شيء بوقته حلو» فما فائدة الرفاهيات السياسية في وقت يعيش فيه غالبية السوريين تحت التحت على كل الأصعدة ولا بد من التعافي أولاً قبل المطالبة بالمستحيلات؟ ألا يعلم الرديحة في مواقع التواصل أن المسحوقين في سوريا اليوم وهم الأغلبية لا يستطيعون أن يفطروا ديمقراطية، ويتغدوا علمانية، ويتعشوا انتخابات، ويتحلوا بـ«رز بحليب دستوري».

كاتب واعلامي سوري






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد