جيل «تيك توك» .. أيُّ مستقبل لأيّ جيل؟

mainThumb

31-01-2025 11:25 PM



الساعة تشير إلى العاشرة صباحًا، أوزّع عليهم "اللّمجة"*، أفتح قنينة هذا، وأقنع تلك بأنْ تتناول ما حضّرته لها والدتها في الـ «lunch box»، وأَعِدُ مَن يُنهي لُمجَتَه كاملةً بأن أسمح لهم بالخروج إلى السّاحة للّعب. أتأكد ألّا أحد يحتاج مني شيئًا، ثم أجلس أخيرًا إلى مكتبي، أُخرج المُذكّرة اليومية من محفظتي لأكتب ما يتوجّب إنجازه اليوم. الأطفال يأكلون في صمتٍ أعرفُ أنه لن يطول، فما إن يرتفع مفعول السُّكَر الذي تناولوه في لُمَجِهِم حتى يندفعوا وتصبح طاقتهم عالية بطريقة مُفاجئة. ما هي إلّا دقائق حتى نهض "يانيس" من مقعده وصار يغنّي أغنية لم أفهم كلماتها جيّدًا لكن لحنها كان مألوفًا. أسأله ماذا تغني؟ أين سمعت هذه الأغنية من قبل؟ يجيبني وهو يقوم بحركات غريبة "في تيكتوك يا la maitresse". لحظاتٌ ويتبعه زملاؤهِ الآخرون، يردّدون الأغنية ويقومون بنفس حركات اليد التي يبدو أنهم يحفظونها جيّدًا كأنهم تدربوا عليها جميعًا من قبل.

أنسى، مراتٍ كثيرةً، أن تلاميذي الصّغار هم مواليدُ "عامِ كورونا"، هؤلاء هم الذين فتحوا أعينهم على زمن الإغلاق والتباعد الاجتماعي. نُشرت أبحاث كثيرة بعد الجائحة، قالت إنّ جيلهم مُعرّض لبعض التحديات النفسية والسيكولوجية نتيجة للظروف التي وُلدوا فيها، وإنّ ثمّة احتمال أن هؤلاء الأطفال تعرضوا لتفاعلٍ اجتماعيّ أقل قد يؤثر على مهاراتهم في التواصل. بعد خمس سنوات من تلك الفترة ها هم الآن يجلسون في "قِسْمٍ" دراسي ممتلئ بأقرانهم، يلعبون ويتعاركون ويتبادلون الأحضان مرة والضّرب مراتٍ أخرى والكلام واللعب، لا أظن أنّ مشكلتهم تكمن في التفاعل الاجتماعي، بل في علاقتهم بالهواتف الذكيّة واستهلاكهم لما تقدمه شبكة الإنترنت المُرعبة من محتوى. وأنا لستُ هنا لأنظِّر، ليس الأمر من اختصاصي أبدًا، أنا أسجّل ملاحظاتٍ راكمتها طوال السنوات التي اشتغلت فيها مُعلّمةً بالروض فقط.
ُضايقني، ورُبّما أحيانًا تُدهشني، قدرة أطفالي على إعادة إنتاج ما يسمعونه ويشاهدونه كمحتوى على تطبيقات الهاتف، يثير انتباهي في الفُسحة مثلًا إعادتهم تمثيل مشاهد ورقصات يرونها على «تيك توك» بدل الألعاب الجماعية التقليدية التي كبرتُ أنا وجيلي عليها. ولا أحتاج أن أذكُر قِصَر عُمر تركيزهم نظرًا لنمط المحتوى القصير والسريع الذي يستهلكونه على «تيك توك»؛ الذي جعل التركيز لفترات طويلة صعبًا عليهم، حيث اعتادوا على الانتقال السريع من فكرة إلى أخرى دون تعمق. اتّسم هذا العصر بالسّرعة في كلّ شيء، بدءًا من التواصل ومرورًا عبر وسائل النقل ثم التحول الرّقمي الذي سرّع إنجاز المهام لا سيّما عند الاستعانة بالذكاء الاصطناعي، ثم لا ننسى الحديث عن التجارة الإلكترونية والتوصيل السريع للسّلع والخدمات، واللائحةُ تطول.
لا أستطيع تحديد إن كان كلّ هذا شيئًا إيجابيًّا أم سلبيًّا، أو إن كانت السّرعة نعمة أم لعنة أصيب بها هذا الجيل، لكن الأكيد أنّ هناك تخمة في كمّ المعلومات، ومبالغة مُعيّنة؛ أتساءل إن كنّا قادرين على مجاراتها. كلّ هذه المعلومات المُتاحة عن كلّ شيء، من التجارب الشخصيّة إلى المعلومات العلمية، الآراءُ والتّجاربُ والاجتهادات مفتوحة في وجه الجميع، من أصغر الأشياء إلى أكبرها: كيف تجهز بيتك؟ كيف تنسّق ألوان ملابسك؟ كيف تتعاملين مع حماتك؟ كيف تنظّم حميتك الغذائيّة؟ كيف تبدو أصغر؟ أذكى؟ أغنى؟ كيف تحبّ وكيف تنسى؟ كيف تُربّي أبناءك؟ كيف تتعلم لغة جديدةً في أسرع وقت، وكيف يصير لك مدخول وأنت في بيتك؟
كمّ رهيب من المعلومات ليس في وسعه إلا أن يجعلنا في حالة لُهاث مستمر وعدم رضى عن أيّ شيء نملكه لأنّه دائمًا هناك أفضل. شعور عام يكتسي الجميع، شعور بأنّ ثمة شيئًا ناقصًا وغيرَ مكتمل، صعود مستمر نحو قمة لا تُدرَك لأنها في ارتفاع دائم. لا عجب أنّ الأمراض النفسية في تزايد، والعلاقات في أزمة، الجميع في سباق شاقٍ والإنسان بطبعه طمّاعٌ يريد المزيد مما لديه، المزيد ماديًّا وعاطفيًّا ومعنويًّا.

ينتهي وقت اللّمجة، وأستيقظ من سَرَحاني، وتظلُّ فكرة واحدة أمامي كلّما تأملت التلاميذُ في فصلي، كيف سيكون شكل عالمِ جيل الألفا هذا، وهم الذين تعوّدوا على الإشباع الفوريّ للرّغبات، ونشؤوا في زمن تخمة المعلومات والاستهلاك السريع والرّبح السهل. أيّ مُستقبلٍ لأي جيل؟

* (وجبة خفيفة يتناولها التلاميذ خلال الاستراحة)



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد