حكايات الفقد واللقاء في غزة

mainThumb

30-01-2025 06:19 PM

في غزة، حيث تتعانق الحكايات مع الألم وتتشابك الأرواح مع رماد الفقد، جاء اليوم الذي انتظرته العيون الدامعة والقلوب المثقلة بالشوق. كان يوم الإفراج عن المعتقلين أشبه بشمس شاحبة تطل على المدينة التي اعتادت أن تصارع الظلام. تلك اللحظة التي تصدح فيها الزغاريد وسط دموع مكبوتة، لأن الفرح في هذه البقعة من العالم دائمًا ممزوج بحزن لا يُمحى.
هناك، عند بوابة السجن التي كانت يومًا حاجزًا بين الحياة والموت، كان يقف رجل قد أكلت السنون من عمره. وجهه يشبه جدارًا متهدمًا، لكنه لا يزال صامدًا. قبل عشرين عامًا، أخذوه من بين أحلامه، انتزعه جيش الاحتلال من حضن زوجته، بينما كان ينتظر طفله الأول. لم يرَ وجه طفله أبدًا، ولم يسمع بكاءه الأول. اليوم، بعد سنوات طويلة، يقف شاب طويل القامة ينتظر ذلك الأب، الذي عرفه فقط من الصور الباهتة والرسائل المكتوبة بخط مرتجف. وحين انفتحت بوابة السجن، كان الزمن يقف على أعتاب اللقاء. الأب، الذي خرج بعينين تبحثان عن وجهٍ حلم به طوال سنوات السجن، توقف فجأة عندما رأى شابًا يشبهه في ملامحه، لكن ملامح الصبر على وجهه كانت أعمق. وقف الاثنان متجمدين للحظة، وكأنهما يخشيان أن يكون اللقاء حلمًا. ثم، فجأة، انفجرت الدموع، وتعانقا كما لو أن الكون كله توقف ليشهد هذا العناق. راح الأب يتحسس وجه ابنه، يمرر أصابعه على وجنتيه، وعلى جبينه، وكأنه يحاول أن يعوض عن كل تلك السنوات التي عاشها دون أن يرى وجهه.
وفي طرف آخر من المدينة، كانت تقف شابة بين الحشود، عيناها تتوهجان بشوق لم تعرف له مثيلًا. عندما اعتقلوا والدها، كانت في السادسة من عمرها، صغيرة بما يكفي لتظن أن الأب سيعود في صباح الغد. لكن الغد امتد عشرين عامًا. لم يكن لديها سوى ذكريات طفولية باهتة وصورة قديمة تحتفظ بها تحت وسادتها. الآن، وهي في السادسة والعشرين من عمرها، تقف هناك تنتظر. قلبها يخفق بشدة، ممزقاً بين الفرح والخوف. «هل سيعرفني؟» تساءلت، وهي تتشبث بفستانها. كانت تخشى أن تكون السنين قد طمست ملامحها في ذاكرته. ثم، فجأة، رأته. كان وجهه كما تخيلته، رغم التجاعيد التي زادتها السجون قسوة. ركضت نحوه، وفي تلك اللحظة، كان العالم كله يتقلص ليصبح مجرد خطى متسارعة نحو العناق. احتضنها كأنه يحتضن العمر الذي فقده، وقال بصوت متهدج: «كيف لا أعرفك؟ كنت أراك في كل حلم، كنت أسمع صوتك في كل لحظة صمت».
وبين ذراعيه وفي تلك اللحظة فقط، شعرت أن الطفلة التي بداخلها تبتسم بعد أن اكتملت طفولتها.

طريق العودة

وعلى طرقات غزة المهشمة، كانت طفلة صغيرة تمشي بخطى مثقلة بالتعب، تحمل على ظهرها أختها الأصغر. كان الركام حولها يبدو وكأنه لوحة لحياة لم تعد موجودة، لكنها كانت تمضي بخطى واثقة، كأنها تقول للعالم: «سأصل، مهما كان الطريق طويلًا». كانت تحمل بين يديها جزءًا من روحها، أختها الصغيرة التي لم تكن تفهم شيئًا عن النزوح والحرب، لكنها كانت تعرف أنها بأمان ما دامت على ظهر أختها. عندما وصلت إلى أطلال بيتها القديم، وقفت للحظة تحدق في الجدران المهدمة، في السقف الذي كان يومًا يحميها من العواصف. شعرت بتعب يفوق عمرها، لكنها لم تستسلم. وضعت أختها على الأرض، جلست بجانبها وقالت لها بهدوء: «سنبدأ من هنا. سنبني كل شيء من جديد، حتى لو لم يتبقَ شيء». في عينيها، كان هناك بريق مقاومة لا يمكن محوه، رغم أن العالم حولها بدا وكأنه استسلم.
وفي مشهد آخر من الحكاية، كانت فتاة تعود إلى بيتها القديم، تحمل قطة بين ذراعيها. خلال سنوات النزوح، كانت هذه القطة هي كل ما يربطها بالبيت الذي فقدته. لم تكن مجرد حيوان أليف، بل كانت جزءًا من ذكرياتها، من حياتها التي تركتها خلفها. حافظت عليها رغم الجوع، رغم الخوف، رغم المشقات التي واجهتها. حملتها حين لم تستطع حمل نفسها، خبأتها في لحظات الخطر، وكأنها تخبرها: «لن أتركك مهما حدث». الآن، وهي تعود إلى البيت الذي أصبح ركاماً، احتضنت القطة وهمست لها «لقد عدنا. رغم كل شيء، عدنا».
في غزة، كل حكاية هي شهادة على صمود شعب لا ينكسر. كل لقاء، كل عودة، هي انتصار صغير في وجه عالم يريد أن يسلبهم كل شيء. في عودة المعتقلين، كان هناك فرح لا يُوصف، لكنه كان فرحًا مثقلًا بالحزن. كيف لا، وهم يعيشون في مدينة لا تزال تحتضن آلاف الأرواح التي غادرت، ولا تزال تسمع أصوات الأطفال الذين لم يكبروا أبدًا، والضحكات التي توقفت فجأة تحت الأنقاض… وهناك في قارة أخرى من يرى في تلك الأرض مشاريع يستثمرها لمصالحه… ومن يخطط لدفع أهالي غزة خارج أرضهم وتشتيتهم بين الأردن ومصر.
غزة ليست مجرد مدينة، إنها رمز للحياة التي تصر على الاستمرار. هي الجرح الذي لا يلتئم، لكنها أيضًا القلب الذي لا يتوقف عن النبض. عودة الأسرى إلى أهلهم، وعودة الأهالي إلى بيوتهم، ليست مجرد لحظات عابرة، بل هي فصل جديد في ملحمة المقاومة والصمود. في كل عناق، في كل دمعة، في كل خطوة تخطوها طفلة نحو بيتها المهدم، هناك رسالة واضحة: نحن هنا، رغم كل شيء. نحن نعيش، ونحب، ونعود، لأن هذه الأرض لنا، ولأن الحب الذي نحمله لها أقوى من أي محنة.
وفي النهاية، لا يمكن للزمن ولا للقهر وللمخططات الترامبيّة النتنياهونيّة أن تمحو تلك اللحظات التي تتشابك فيها الأرواح. الأب الذي عانق ابنه لأول مرة بعد عشرين عامًا، الشابة التي احتضنت والدها كما لو أنها تعيد الزمن إلى الوراء، الطفلة التي تمسكت بأختها الصغرى وسط الدمار، والفتاة التي عادت إلى بيتها مع قطتها، كلهم يحملون حكايات ليست مجرد قصص، بل دروس في الحب والانتماء. في غزة، يُكتب الأمل بأحرف من دم ودموع، لكنه يبقى، مثل شجرة تتشبث بجذورها في أرض لا تعرف إلا الحياة.

كاتبة لبنانيّة



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد