سؤال السلام

mainThumb

28-01-2025 02:40 PM

يعيد بدء وقف إطلاق النار في غزة، وفي ضوء الأثمان البشرية والمادية الهائلة التي تكبدها الفلسطينيون، طرح الأسئلة الحارة نفسها: هل حل ما اصطلح على تسميتها «القضية الفلسطينية» هو المدخل الوحيد والضروري والنهائي للسلام والاستقرار في المنطقة؟

بين أهداف عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، كان تعطيل ديناميات السلام الناشئة، التي عبّرت عنها مواقف سياسية رئيسية في العالم العربي بشأن الاستعداد لعقد سلام شامل، أو البحث في مشروعات اقتصادية وبنية تحتية تستبطن ما هو أبعد من التطبيع الدبلوماسي والسياسي، مثل الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا. سبق ذلك توقيع «الاتفاق الإبراهيمي» عام 2020، بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، الذي كان نقطة تحول تاريخية على طريق بناء شرق أوسط جديد.

حرب غزة، بوصفها حرباً على هذا السلام تحديداً، ترافقت مع ادعاء أن التطبيع العربي مع إسرائيل «سَلَبَ» الفلسطينيين أوراق نفوذهم. وعليه؛ وجب التدقيق في ما إذا كانت المقاطعة في الماضي قد استُخدمت فعلاً بشكل فعال من قبل الفلسطينيين لخدمة قضيتهم. لنتذكر أنه، ولأكثر من 7 عقود، ربطت الدول العربية أي تقدم في علاقاتها بإسرائيل بحل القضية الفلسطينية، من دون أن تحقق الكثير بشأن وقف الاستيطان أو قيام دولة فلسطينية مستقلة. أما القول إن التطبيع الآن، والديناميات القائمة التي قد تفضي إلى اتفاقات مماثلة، همّشت الفلسطينيين وقضيتهم، إنما يتجاهل الحقيقة الأعمق وهي أن القيادة الفلسطينية تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية عن تراجع الأولوية الفلسطينية؛ أكان بسبب الانقسام الفلسطيني، أم الفساد المستشري، أم الغياب القاتل لرؤية موحدة للمشروع الوطني، أم امتلاك القوى المتعددة استراتيجية قابلة للتنفيذ؛ سلماً أو حرباً.

لم تهدر القيادة الفلسطينية عقوداً من الدعم العربي غير المشروط، بل جعلت من هذا الدعم رافداً لتغذية خلافاتهم الداخلية؛ مما حرم الشعب الفلسطيني من استثمار كثير من الفرص التي طُرحت لمصلحته. دفع ذلك أيضاً الدول المعنية إلى إعادة ترتيب أولوياتها بغية معالجة التحديات الإقليمية الأخرى، بما في ذلك التصدي للتهديدات الإيرانية، وتعزيز التنمية الاقتصادية، وحماية استقرار الدول الهشة.

المأساة الكبرى اليوم، هي الترويج لفكرة أن «هجوم 7 أكتوبر» يثبت أن تهميش الفلسطينيين يزعزع الاستقرار في المنطقة، وكأن هذه الحرب خدمت بالفعل مصالح الشعب الفلسطيني، أو عالجت التهميش المفترض. في الواقع؛ يتجاهل إلقاء اللوم على «الاتفاق الإبراهيمي» حقيقة أن «حماس»، المدعومة من إيران، عملت دوماً على إفشال أي مبادرة سلام بغض النظر عن مضمونها. كما يتجاهل هذا الموقف حقيقة أن عدم استقرار الشرق الأوسط ينبع من عوامل متعددة، مثل الصراعات الطائفية، والدول الفاشلة، والتنافسات الجيوسياسية (الديناميات السعودية - الإيرانية، والأوضاع في اليمن وسوريا والعراق والسودان وليبيا). هذه القضايا الأوسع قد تستمر في تغذية عدم الاستقرار حتى لو تم حل القضية الفلسطينية، بل إنها تزداد استفحالاً إذا ما رُبط مصير معالجتها بمصير القضية الفلسطينية.

وما صمود «الاتفاق الإبراهيمي»، وإعادة طرح مقترحات السلام الشامل مع عودة إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، إلى البيت الأبيض، وتغيير الخطاب السوري حيال الصراع مع إسرائيل بعد سقوط نظام الأسد، وولادة معادلة جديدة في لبنان تغازل فكرة السلام من بعيد، إلا دليل على أن المنطقة لا تتحمل فكرة انتظار المعالجة النهائية للمسألة الفلسطينية، قبل الخوض في التصدي للتحديات التي تواجهها بقية الدول في مجالات الاقتصاد والأمن والمناخ والتكنولوجيا وترميم الحوكمة وبناء النظم السياسية.

وعليه؛ يكشف العجز عن قراءة تغييرات الرأي العام في دول مثل لبنان وسوريا، وهي دول ومجتمعات على تماس مع القضية الفلسطينية، عن نظرة مبسطة للرأي العام العربي عامة، حيث يصوَّر كأنه على نقيض الحكومات بشأن التطبيع مع إسرائيل من دون حل نهائي وحاسم للقضية الفلسطينية.

أما التبسيط الموازي فيكمن في الافتراض أن ما لا يستفيد منه الفلسطينيون بشكل كامل فهو ضرر كامل يقع عليهم وعلى العرب أيضاً.

في حين أن التطبيع مع إسرائيل، كما في حالة الإمارات والمغرب، جاء بما يتسق مع مصالحهما الوطنية، من دون أن يعني ذلك التخلي عن دعم الحقوق الفلسطينية. انتزع المغرب، مثلاً، اعتراف الولايات المتحدة بسيادته على الصحراء في مقابل تطبيعه مع إسرائيل، وهو مكسب استراتيجي للرباط. أما الإمارات، فوظفت السلام مع إسرائيل لتوسعة دورها الاقتصادي والتجاري في الشرق الأوسط، وعززت موقعها في مجال الاستثمار التكنولوجي، وطورت عبر الشراكات الأمنية مع إسرائيل قدراتها على مواجهة تحديات الأمن الإقليمي.

إلى ذلك، استفادت أبوظبي من علاقة الثقة مع إسرائيل لتلعب دوراً ريادياً في تقديم المساعدات الإنسانية وتعزيز صمود الشعب الفلسطيني، خلال الحرب، عبر بناء مستشفيات ميدانية، وإنشاء محطات لتحلية المياه، وتقديم الدعم الغذائي والصحي واللوجيستي داخل غزة، مما يعكس توازناً بين تحقيق المصالح الوطنية للدول والدفاع عن القضية الفلسطينية بطرق عملية ومؤثرة.

محاكمة اتفاقات السلام على قاعدة «إما تُحقق السلام التام، وإما تُفاقم عدم الاستقرار» تنطوي على إفراط في التبسيط. صناعة السلام في منطقةٍ معقدةٍ مثل منطقتنا هي مسار لمراكمة استقرار جزئي قد يفضي إلى استقرار شامل. كما أن افتراض أن التطبيع عملية جامدة يتجاهل الإمكانات طويلة المدى لهذه العلاقات، التي قد تخلق ظروفاً تمكّن الدول العربية من ممارسة نفوذ أكبر على إسرائيل بشأن الحقوق الفلسطينية؛ إذا توافرت قيادة فلسطينية قادرة على استثمار الفرص.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد