الشيخ وشاعره

mainThumb

19-01-2025 12:31 PM

تململ الشيخ في مجلسه، وهو يحاول جاهداً أن يتمثل نمط حياة القبيلة التي نزل اليها بالمظلة، بدا متخبطاً بالرغم من أنه يوجد في القبيلة أشخاص أُعدوا مسبقاً، مهنتهم البقاء حول الشيخ يعينونه على إدارة شؤون القبيلة، يعملون كأرجل اعتبارية أو قواعد تقوم عليها سُلطة الشيخ، وهم الذين يسمونهم (مسامير الصحن) والتعبيران يعنيان نفس المعنى وهو: "خلق التوازن للشيخ حتى يمارس السلطة". ويتدرج هؤلاء في الأهمية، من جامع الحطب، وصانع القهوة، وعين الشيخ في المراعي، وسائس الخيل... وكبيرهم والأهم فيهم هو شاعر الشيخ..

شاعر الشيخ عادة ما يكون "فيلسوفاً" يقرأ ما وراء المشهد، ولأنه فيلسوف، لا يتكلم كلاماً مباشراً إلا ما ندر!!، ويزداد كلامه غموضاً على العامة، وبخاصة شراشب الخرج "مجموعة من المتزلفين يتغنون بأفعال الشيخ حتى لو كانت خاطئة، وهم بلا أهمية فقط ديكور"..
أقول: يزداد الغموض عندما يريد الشاعر تنبيه الشيخ الخطاء الى خطأ يقترب من الوقوع فيه، فيُغرق في الرمزية والإيماءات المشفرة التي من المفروض أن لا يلتقطها إلا الشيخ وحده (إن كان على قدر منزلته، ومؤهلاً ليشغل هذا المكان)..

بعد مُجالَسة الشاعر المبعوث للشيخ عدة أيام، بدا عليه الإرهاق النفسي، فالشيخ لا يفهم عليه، وما يحاول الشاعر توريته(إخفاءه)، يفعله الشيخ بلا حرج، ويكشف الرسائل المشفرة. ما يحط من قيمته أمام دائرته المقربة وأحياناً ضيوف "شق" الشيخ من دبلوماسيي القبائل الأخرى، فما بالك الرعية المرهقة!!..

الذي أرهق الشاعر كثيراً، هو أن أكثر ما يدور في "الشق" ويطلبه الشيخ من الشاعر القصيد والقهوة الصهباء، غير ملتفت لامور العشيرة، ولا يهمه المراعي ولا الغدران.. في المجلس حين يبدأ الشاعر يجر (يعزف)على الربابة، يقول الشيخ بصوت مرتفع: "شبوا النار" فليالي الشتاء باردة جداً في الصحراء، فيقربوها منه، وما أن توضع أمامه حتى يبدأ العبث بها كأنه يشعر الحاشية أنه يفكر بمرامي القصيد، لكن الشاعر يحاول ثنيه عما يفعله لاقترابه من الخطر دون فائدة، وفجأة يصدق حدس الشاعر، وتبدأ النار تتسلل الى ثوب الشيخ العابث.. وهو من شدة اندغامه بأجواء الطرب لا يحس بحسيسها والشاعر يطلق الرسائل المشفرة، الرسالة وراء الثانية، والشيخ يعيد القوافي ومستمتعاً بدفء النار.. والشاعر يستشيط غضباً ويرفع من صوته ويضغط بالقوس على وتر الربابة..!!
إلى أن ترك الشاعر التورية وقالها صراحة على انغام الربابة:
يا شيخ النار كَلَت ثوبك.. فرد الشيخ.. ثوبك!
أردف الشاعر:
أقول صدق ماهو بكذب.. فرد الشيخ.. كذب!

عندها انفجر الشاعر صارخاً بالشيخ، مع رفسة على ظهره "كَفَتهُ" على وجهه بعيداً عن النار، وألقى بالربابة في النار، متخلياً عن دوره الاعلامي، وعن دعم "الشِّيخَة" البالية التي تخلت عن كل منطق!! معلناً تمرده وعصيانه لسلطة الشيخ، التي أشقت الناس وأعدمتهم ولم تقدم لهم شيئاً غير الديكورات الممجوجة والكلام الفارغ الذي رهن العشيرة للمجهول، ومما زاد من ألم الشاعر أنه هو مهندس الكلام الفارغ في مدائحه للشيخ، وتضليل الرأي العام.. فهو إعلام الشيخ...!!.

لا يستطيع أي محتل أن يحول بين الناس وثوابتهم وعاداتهم وما يدور في مجتمعهم من روابط وما يشغلهم من قضايا، وإن من "يشيخ" عليهم عرضاً، بدون مقومات جوهرية تتعدى الشكل والهيئة والارتباطات المشبوهة، ولأنه طارئ لا يستطيع فهم معاناتهم ولا يشعر بحاجاتهم، ولا يقدرهم، أو يهتم بمصيرهم، لأنه متقوقع على حاجات نفسه فقط، ويتلقى سير عمله من الخارج ليقمع الداخل..
هذا الوضع يخلق حالة من التناقض والفصام بين السلطة وداعميها من مؤسسات وأفراد، وستنتهي بالتمرد والثورة، وخاصة عند الشاعر "القبلي" الذي يتحرج من اهتزاز صورة الشيخ وسمعته بين العربان، كونه إعلام الشيخ ومكلف بتحسين صورته، ثم لا يساعده الشيخ في القيام بمهامه، ما يؤدي في النهاية إلى الركلة التي حصلت وجعلت الشيخ يَخرُّ صريعاً لليدين وللفم.





تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد