الغدر في عمق البحر: حين يغرق الأبناء في اختيار الآباء

mainThumb

16-01-2025 09:36 PM

كانت حياتنا مثل باخرةٍ كبيرةٍ ولا ماء تحتها، تهبُّ عليها الرياح من كلِّ جانبٍ،شراعها غَضَبْ، وأمواجها تعنيفٌ وضَرْبْ، يقتربُ الخوف منَّا كل يوم عن كَثب، وصافرة النِّهاية تعلنُ عن خاتمةٍ لحياةٍ شبيهةٌ بالموت.

كان بيتنا جدرانه متصدّعةٌ من الصراخ، وأرضيّته ترتعشُ تحت وطأةِ الخلافات، أبي وأمي كانا مثل غيمتين تتصادمان في السماء، فلا ينزلُ المطر، بل صواعق الفزع،
كان كلُّ شيءٍ فيه صاخبًا، حتى صمتهِ.


كنتُ أختبئ خلف البابِ أحيانًا، وأتركُ فُتحةً صغيرةً؛ لأراقبَ منها تطورات المعركة ، معركةٌ، و للأسفِ كانَ أطرافها أكثر شخصين كانَ ينبغي لهما أن يحرصوا على تمكينِ هذا العُشِِّ، لا أن يهدموه بالتخريبِ والبطشِ، لا جاهٍ سليلٍ يمكنهُ أن يشفعَ للتعبِ، و لا التزوير ولا الغِشِّ، ولا حُمرةِ خدٍّ ولا بدلة أنيقة، و لا قرارٍ قد يَكسرُ أجيالًا، ويُصلَحُ في كأسِ قهوةٍ مرٍّ وترشِّي.


ثم جاء ذلك اليوم، حينما حملتِ حقائب القهر، وتركتنا في بيتٍ باردٍ مليء بصدى الشجارِ، ناشدتُك حينها وبكيتُ؛ لأنني لمحتُ وقتها في عينيكِ مرارة الصبر، و شقاوة البقاء،و عاتبتُك في ضميري: لماذا لم تُغادري مبكرًا؟
لماذا الآن تحزمين الموقف؟
إنتظري قليلًا يأ امي، فدموعي انا ومحمد عما قليل ستنشفْ...

وذات مرةٍ، ناداني والدي وقال: " غلا، أحضري محمد وتعالي ، سأخذكم إلى مشوار.."
كانت الكلمات تخرج من فمه بهدوءٍ، لكن في داخلي كانت أصداؤها تحمل بشائر أمل، كنتُ أظنُّ أننا ذاهبون لمصالحتكِ يا أمي، أو ربما سنذهب لشراء قرطاسية الفصل الجديد، ويبدأ عهدنا مع الفرحِ.

وقفتُ أمام مرآة الطفولة، وهندمتُ شعري، وارتديتُ لباسًا ثقيلًا، كما لو أنني أستعد لرحلةٍ إلى عالمٍ آخر، عالم بعيد عن الألم، حملت محمد بين ذراعيّ الواهنة، حيث كان قلبي ينبض بشدةٍ وأنا أفكر أن "شيئًا جميلًا سيحدث".


وصلنا إلى النهر، وظننت أننا هناك لنلتقط صورةً مع الأمان ، لكن النهر كان هائجًا، كما لو كان يبتلعُ كل غضب أبي،أدركتُ حينها أن الذي كنتُ أظنه الحامي، قد غدر بي، وألقى في قلبينا سم الانتقام. كأنَّه لا يرى فينا إلا رسالة انتقام يريد أن يغرسها بمنتصفِ قلبك يا أمي.

رفعني يا أمي، رفعني وكأنني قشة في بحرٍ عاصفٍ، ثم ألقى بي في الماءِ، ومابين لحظة الادراك ولحظة السقوط، كان الموت يُغني لي تهويدتك، بصوتٍ حزينٍ:
"يلا تنام يلا تنام لادبحله طير الحمام..." الموتُ يغني، والبحر يعزفُ ألحان الوداع الأخير.
رأيتُ محمد يُلقى بعدي، صوته الصغير يختفي في موجةٍ عاتيةٍ، صرخاتهِ أيقظت سُبات البحرِ، حتى لو كانَ للبحرِ لسانًا، لأقسمَ على وحشيةِ المشهدِ،لصرخَ في وجهكَ مستنكرًا من أبوّتكَ! ،مُستحقرًا لخيانتكَ لمَنْ هم من صُلبك! مُتسائلًا عن غيابِ معاني الرَّحمة والشفقة في قلبكَ! البحر شهِد على جريمتك يا أبي، وربّ البحر لن يعفو عنك مهما انتهشتكَ أنياب الذكريات، و سيّلت دماعكَ أطيافنا وهي تلعبُ في الدَّار، لن ترحمكَ نفسك يا أبي، فقد غلَبك غُراب بني آدم ، أمَّا أنت فهزمتكَ إنسانيَّتك.


مدّ لي الموت ذراعيهِ،و تذكرتُ قبل أن أُغمرَ في حضرتهِ، كلماتكِ يا أمي حينما كنتِ تمشطين لي شعري: "غلا، غدًا ستكبرين وتُصبحين نجمة." كنتُ أضحك وأقول: "لكن يا أمي النجوم بعيدة جدًا." لم أفهم وقتها أنكِ كنتِ تُحاولين أن ترفعي بي عن هذا الطين الذي سقطنا فيه، أن تُضيئي لي طريقًا وسط ظلامٍ كثيف،وأنكِ كنتِ تخبئين عني حقيقة هذا العالم الموحش الذي يحكمهُ الغدر.


الآن، أنا ومحمد هنا، في عمق السيلِ. لم يعد البرد يؤلمني، ولم يعد الماء يُخيفني. لكنني أريدكِ يا أمي أن تحكي قصتي.
قولي للنساء إنَّ الاختيار ليس رفاهية. قولي لهنَّ إنَّ الأطفال يدفعون ثمن أخطاء الكبار. قولي لهنَّ إنَّ الرجل الذي لا يحمي أبناءه لا يستحقُّ أن يكون أبًا، وإنَّ المرأة التي تهربُ دون أن تحمل أطفالها معها تتركهم للهاوية، وأن البيت الذي لا يقومُ على الرحمةِ تنهارُ جدرانهِ، والأب الذي يصفقُ الأبواب، سيأتي يومًا يُصفق فيها أي شيء حتى ولو كان "أرواح أطفالهِ".
أخبري النساء أن يتخلين حينما تُهدر الكرامة، وتغدو العِشرة لقمة عسيرة البلع، أخبريهن أن الرحيل باكرًا قوّة، و البقاء في قلبِ النارِ ليست "شطارة".


أنا ومحمد الآن أقربُ إلى السماء،و أعلمُ أن قلبكِ لا يزالُ ينزفُ حبًّا، لكن الحبَّ وحده لا يكفي، أريدكِ أن تتذكري شيئًا واحدًا: نحن لسنا مجرد ذكرى تُطوى مع الزمنِ، أو حدثٍ مأساوي على قائمة الأخبار اليوميَّة ، من أعماقِ البحرِ نكتبُ عن نبوءةِ الإختيار السليم، نساءًا ورجالًا، وأن الاختيار مسؤولية، ومسؤولية الأخطاء لا تسقط بمجردِ مُغادرة الغرفة . 

إقرأ المزيد : 






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد