جهود اللحظات الأخيرة

mainThumb

16-01-2025 05:09 PM


أفضت الجولات الماراثونيّة من التّفاوض لاتّفاقٍ لم يتضح أكثر من ملامحه الأساسيّة، فيما تُركت عشراتُ القضايا إلى مراحِل أخرى منها، يأملُ الوسطاء أنْ تستكملَ لو لم تجهِض دولة الاحتلال بمتطرّفيها ومجانينها هذا الاتفاق، وتعيدَ الأمور إلى نقطة ما قبل الصِّفر كالعادة. خاصّة أنّها ومع لحظة إعلان رئيس الوزراء القطريّ وزير الخارجيّة التوصّل لاتفاق، قصف طيرانها جنين (شمال الضّفة) وغزّة، قبل أنْ يدّعي مكتب نتنياهو صباح الخميس تراجع حماس وتأجيل انعقاد «الكابينيت»، فيما تعهّد للأحزاب المتطرفة بمواصلة الحرب بعد انتهاء مدّة الاتفاق.
لا أعرفُ إنْ كانَ علينا التفاؤل.. أو إنْ كانَ يصحُّ أنْ نسمّي هذا الذي جرى تفاوضًا... فبعد 467 يومًا من إبادة متواصلة طالت البشر والحجر والأجنّة في بطون أمّهاتهم، ومن الفرجة والشّراكة الدوليّة على لحمِ الفلسطينيّ الذي مزّقته الطائرات، يبدو جنونًا التفكير بالرّبح والخسارة... وجنونًا أنّ العالم كلّه فشل حتّى هذه اللحظة المشكوك فيها بوقفِ هذا التّوحش، وجنونًا وعبثًا أيُّ حديثٍ لاحق عن حقوق إنسان أو قانونٍ دوليّ، وأكثر جنونًا منه الرغبات غير الآدميّة لدى قطاعات واسعة داخل دولة الاحتلال باستئناف الحرب، على المساحة الجغرافيّة التي سويت وأهلها بالأرض.
تذكّرنا هذه (الجهود) خلال الدقائق الأخيرة لـ"فترة البطّة العرجاء" الأميركيّة، بقضيّة الرهائن الأميركيين في إيران، الذينَ احتجزوا لمدة 444 يومًا، (من 4 نوفمبر 1979 حتى 20 يناير 1981). إذْ تمّ الإفراج عنهم بعد دقائق من استلام الرئيس الأميركي ريغان (جمهوريّ) ولايته الدستوريّة في العشرين من يناير، خلفًا للرئيس الأميركي كارتر (ديمقراطي)، وها هو التاريخ يعيد نفسه بطريقةٍ شبيه مع اختلافات عدّة، إذْ من المتوقّع أنْ يبدأ سريان الهدنة لو تمّ المضيُّ قدمًا فيها قبل يومٍ واحد من استلام ترمب سلطاته الدستوريّة.
من المبكِّر كثيرًا أنْ نبدأ «الفتوى» على أهلِ غزّة حول ما يجدُرُ ولا يجدُرُ بهم القيام به. ومن الجيّد الانتباه إلى أنّه إنْ كانَ ثمّة جوانبُ نصرٍ فهي للغزّيين وحدهم، الذي صبروا فوقَ قدرة البشريّ، وكيّفوا المستحيلات كلّها، ولم يخرجوا للمطالبة بغفران جماعيّ أو استلام، وكلٌ منهم في موقعه كانَ «خارقًا»؛ طبيبًا ومسعفًا ومقاتلًا وممرضًا وصحفيًا وأبًا وجدًا وأمًا، كلٌ في موقعه حاول الانتصارَ للبشريِّ فيه، فتراحموا وتعاطفوا وتآزروا. وإنّ ثمّة جوانب خسارة كبيرة وفادحة... نتقاسمها كلُّنا؛ فلسطينيين وعربًا وبشرًا، ونحمل معهم وعنهم عار وصعوبة الخسائر التي لن تتوقّف بوقف إطلاق النار، بل إنّها أصبحت وستصبحُ عطبًا كبيرًا في الأرواح والأجساد والأنظمة والإنسانيّة برمّتها.
نتذكّر كلمةً لمحمود درويش، غداة الانسحاب الإسرائيليّ من جنوبيّ لبنان عام 2000، وهو يقول: "ليس هنالك نصر نهائيّ ولا هزيمة نهائية، فهذان المفهومان يتقنان لعبة التناوب والاحترام المتبادل، لكي يكمل السيد التاريخ حركته اللانهائية، المهم هو: ماذا يفعل المنتصر بالنصر، وماذا يصنع المهزوم بالهزيمة. ولعل بعض الهزائم صالح لبلوغ البشر مرحلة النضج المعنوي والأخلاقي. ولعل بعض الانتصارات أخطر على البعض من الهزيمة؛ لأنه يعفيه من ضرورة الإصغاء إلى صوت الزمن. لقد انتصرت إسرائيل على العرب أكثر من طاقتها على تحمل تبعات نصرها، إذ صار دماغها العسكري أكبر من جسدها، فأصبحت أسيرة لفائض قوة جشعة، دون أنْ تحسب أيَّ حساب لقدرة المقاومة الشّعبية على تحييد هذه القوة"، (...) وللكلام بقيّة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد