الجهل والكهنة واستغلال الساسة

mainThumb

04-01-2025 02:30 AM

لولا الجهل لمات الكهنة من الجوع وسكن السياسيون السجون
الحقيقة المرّة عن قوة الجهل في تشكيل مصير المجتمعات، وتحالفه غير المقدّس مع أصحاب المصالح الذين يسعون للبقاء في دائرة السلطة والنفوذ. الجهل ليس مجرد انعدام للمعرفة، بل هو أداة خطيرة يُسخّرها الكهنة والساسة لتمكين أنفسهم من رقاب الشعوب. في ظل الجهل، تزدهر الخرافات، ويعلو صوت الشعوذة على صوت العقل، ويجد الكهنة مكانًا خصبًا لإطعام نفوسهم الطامعة من عقول الجماهير المستسلمة.
إن الكهنة هنا ليسوا بالضرورة رجال دين بالمعنى الحرفي، بل هم كل من يتستر برداء الإرشاد الروحي أو الفكري لتضليل الناس، ونشر التبعية الفكرية بدلاً من الاستقلال العقلي. الجهل الذي يروّج له هؤلاء يصنع مجتمعًا خاضعًا، يتوهّم أنه بحاجة دائمة إلى من يفسر له الحياة والوجود. حين يكون الوعي غائبًا، تصبح الحقيقة ملكًا لمن يتحدث باسمها، وهنا تكمن خطورة الكهنوت المعاصر.
أما السياسيون، فهم الوجه الآخر لهذه المعادلة؛ إذ يستغلون الجهل لضمان بقائهم في مناصبهم، متكئين على دعامات من الولاء الأعمى والتضليل الممنهج. في مجتمع واعٍ، يخضع السياسي للمساءلة والمحاسبة، وحينها يصبح السجن مصير من يخطئ أو يفسد. أما في مجتمع يعاني من الجهل، فلا مكان للسؤال، ولا صوت فوق صوت الشعارات الجوفاء التي تُروّج باسم الوطنية أو الدين أو الأمن. الجهل في مثل هذه البيئات هو الحليف الأكبر للفساد والاستبداد، إذ يمنح السياسيين حصانةً ضد النقد، ويمنع الناس من المطالبة بحقوقهم.
لولا الجهل، لسقطت أقنعة الكهنة الذين يعيشون على وهم القدسية، ولأجبر السياسيون على خدمة شعوبهم بدل استعبادها في مجتمع المعرفة، لا يعيش الكهنة من الجوع فقط، بل يتلاشى وجودهم، لأن الإنسان حين يمتلك الوعي لا يحتاج إلى وصيّ على عقله. أما الساسة، فمصيرهم في مجتمع مدرك لحقوقه سيكون إما العمل بإخلاص، أو مواجهة المحاسبة الصارمة.
لذا، فإن مواجهة الجهل ليست مجرد معركة ثقافية، بل هي معركة وجودية من أجل تحرير العقول، لأن المجتمع الذي ينتصر فيه العقل هو مجتمع تنتصر فيه الحرية والعدالة. إذا أردنا أن نصل إلى يوم يموت فيه الكهنة من الجوع، ويخشى فيه السياسيون السجون، علينا أن نؤسس لنهضة فكرية تعيد الاعتبار للعقل والوعي، وتجعل المعرفة سلاحًا في يد كل فرد. حينها فقط، يمكن أن نعيش في عالم لا مكان فيه لظلم الكهنة أو طغيان السياسيين، بل عالم يحكمه الحق، وتزدهر فيه الكرامة الإنسانية.
إن استمرار الكهنة في التغذي على الجهل واستمرار السياسيين في الإفلات من العقاب لا يعود إلى قوة هؤلاء بقدر ما يعود إلى ضعف الوعي العام. إنهم يعتاشون على فراغ العقل الجمعي، في حين أن الحل الحقيقي يكمن في ملء هذا الفراغ بالمعرفة والفكر الناقد.
المجتمعات التي تتسلح بالعلم والفهم تصبح منيعة أمام محاولات السيطرة والتضليل. التعليم وحده لا يكفي إذا لم يكن قائمًا على تشجيع التفكير المستقل والبحث الحر عن الحقيقة. إن تلقين الناس دون أن يُمنحوا حق التساؤل والنقد لا يخلق سوى أجيال جديدة من الأتباع الخاضعين، وهنا يستمر الكهنة والسياسيون في التحكم بمصير الأمة. لا بد من ثورة معرفية تجعل من الفرد محورًا للفكر والتحليل، لا مجرد مستهلك لما يُقدّم له.
ومع ذلك، لا ينبغي الاكتفاء بالوعي الفكري فقط، بل لا بد أن يقترن ذلك بوعي حقوقي ومجتمعي. فالمعرفة دون وعي بالحقوق والواجبات تظل قاصرة عن إحداث التغيير الحقيقي. الجهل الذي نواجهه اليوم ليس مجرد جهل بالعلوم أو الثقافة، بل هو جهل بحق الإنسان في الحياة الكريمة والحرية والعدالة. حين يدرك الناس أن واجبهم ليس فقط الطاعة العمياء، بل أيضًا المشاركة الفعّالة في بناء مجتمعهم، ستبدأ معادلة السلطة في التغير.
لن يموت الكهنة من الجوع إلا حين تجف منابع الجهل في العقول. ولن يسكن السياسيون السجون إلا حين يصبح القانون فوق الجميع، وحين تنكسر تلك الحلقات التي تربط السلطة بالاستبداد. وحدها الشعوب الواعية هي القادرة على كتابة نهاية هذا التحالف القائم بين الجهل والسلطة، عبر صنع مستقبل يقوم على حرية العقل وكرامة الإنسان.
في النهاية، فإن معركة التحرر من الجهل هي مسؤولية الجميع، وليست مجرد مهمة فردية أو نخبوية. كل من يحمل نور المعرفة عليه أن ينقله إلى غيره، لأن النور إذا بقي محبوسًا في قلوب قلّة، فلن يبدد الظلام. حين يصبح الوعي ثقافة عامة، ستسقط أسوار الكهنوت، وتتهاوى أبراج الطغيان، وسنرى أخيرًا يومًا ينكسر فيه طغيان الجهل، ويولد فجر الحرية الحقيقية.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد