بين التأريخ والتاريخ

mainThumb

01-01-2025 10:05 AM

ليس قليلا ما نلمسه من خلط بين التمثيل الواقعي والمتخيل التاريخي عند كثير من كتّاب الرواية وناقديها، الذين يرون أنَّ الواقعة التاريخية هي ما كان زمان وقوعها قد انقضى ومضى، ومن ثم يكون كل ماضوي هو تاريخي. وهذا تصور جزافي ووهم شائع إلى درجة يحتاج معها رصدا وتصحيحا.
ومدار هذا الإشكال بطبيعة الحال يدور في فضاء حركة الواقع والحركة التاريخية، وضرورة التمييز بين ما هو تأريخي وتاريخي. فليس كل ما مضى يعد تاريخيا، بل الماضي ماضويات؛ فثمة الماضي القريب الذي ما زالت خيوط أحداثه متصلة تأريخيا بالواقع الحاضر اتصالا صميميا. ومع أن ثمة فاصلا زمانيا وموضوعيا عن الواقع الحاضر، فإن هذا الواقع يمدُّ خيوطه إليه ويتواصل معه، بعكس الماضي الغابر، الذي أفلت أواصر التواصل معه تاريخيا، وأزفت كل تأثيراته؛ لكن الواقع الحاضر يسحبه إليه كي يعيد إحياءه من جديد من خلال غربلة الوقائع وإعادة قراءة كل واقعة قراءة تمكِّن من سردها من جديد سردا يعيد إليها حيويتها. وهذان الماضيان القريب والغابر هما اللذان يستحثان الروائيين، إما لأجل أخذ العظة والاعتبار، أو لأجل الترميز إلى ما في الحاضر من ظواهر سلبية ومسائل خافية أو مسكوت عنها.
وإذا كانت الرواية الواقعية تختص بتمثيل الماضي القريب، فإن الرواية التاريخية ورواية التاريخ تختصان بتمثيل الماضي الغابر، مع فارق جوهري هو أن الأولى تقتصر في عملية استنهاض أفول الواقعة التاريخية على تدوير ما أرشفه المؤرخون من أحداثها داخل المجلدات والسجلات والحوليات. وما يقوم به الروائي هو سحب الماضي الآفل إلى الحاضر، فتكون العلاقة بينهما حية، أو كما يقول جورج لوكاش (تحويل الماضي إلى حكاية رمزية عن الحاضر) بوصف الحاضر وسيلة لهدف رئيس هو إيقاظ الماضي الغابر. أما رواية التاريخ فإنها تستثمر الوقائع التاريخية بقصد سحب الحاضر، ليكون جزءا من الماضي الغابر. فالواقعة آفلة لأن التاريخ أسدل أستاره عليها وما ينفض الغبار عن الواقعة هو عصرنتها بالحاضر، الذي هو مراد الروائي. بمعنى أن استعادة الماضي الغابر وسيلة لهدف رئيس هو الواقع الحاضر ترميزا إلى فواعله وطبقاته وتياراته.
وعلى الرغم من التباين الفني الكبير بين الرواية التاريخية ورواية التاريخ، فإن المسافة الزمانية ما بين الماضي والحاضر تبقى تاريخية؛ لأن الماضي غارب وغابر بالمقاييس الفيزيقية للزمان، ومن ثم لا صلة تربطه بالحاضر المعيش. وما تفعله هاتان الروايتان – كل حسب طريقتها في الاستدعاء- هو أنهما تتعاملان مع الماضي بوصفه فاعلا في خضم الحاضر وبموازاة دواماته.
وإذا كانت إشكالية التفريق بين التمثيل الواقعي والمتخيل التاريخي هي في التمييز بين حركة الواقع والحركة التاريخية، فإن الأساس الموضوعي في هذه الإشكالية مرده إلى الفارق الزماني ما بين التأريخ (يمثله التقويم الروزنامي) والتاريخ (تمثله السجلات والوثائق والحوليات والإخباريات) ويتحدد التأريخي بالمواقتات الزمنية (ساعة/ نهار / ليل/ صيف/ شتاء/ يوم/ شهر/ سنة) في حين يتحدد التاريخي بالحقب والعصور، وما فيها من تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية وحضارية. ومعلوم أن الأمد الزمني للحقبة لا يقل عن خمسين عاما إلى مئة عام، وأمد العصر لا يقل عن بضعة مئات من الأعوام. وإذا قيل إن التحولات يمكن أن تحصل في عقد أو بضعة عقود، فإننا نرد بأن هذه التحولات هي في الحقيقة متغيرات تحصل بشكل آني ويبقى إطار تأثيراتها محصورا في ما هو حاضر معيش، بحكم المقياس الفيزيقي لتأريخية حدوثها. ولا يصير التأريخي تاريخيا إلا بعد أن تتحقب تلك المتغيرات أي تمرُّ عليها حقبة أو أكثر. وعند ذاك تتأكد حقيقتها؛ هل هي فعلا تحولات أم لا؟
بمعنى أن مرور مئة عام ويزيد على المتغيرات هي التي تجعل معاينتها من منظار الواقع الحاضر متحققة؛ إما بوصفها متغيرات آنية مرهونة بزمانها الفيزيقي، أو بوصفها تحولات انقضت تأريخيتها وصارت في عداد ما هو ماض غابر. وشتان ما بين واقع آني معيش، وواقعة تامة ومنتهية وموثقة تاريخيا.
إن التعاطي مع إشكالية تمثيل الواقع الموضوعي داخل الرواية يتمثل في هذا الخيط الرفيع الفاصل بين حركة الواقع التأريخية وحركة الماضي التاريخية. فالأولى حاضرها معيش أو منصرم، والأخرى حاضرها ماضوي وماضيها غابر. ومن ثم يكون لزاما التفريق بين زمان السرد الذي تحكمه مسافات فيزيقية (وهو أمر أساس في كتابة الرواية التسجيلية) وسرد الزمان الذي تحكمه العلاقات والتحولات التاريخية (وهو أمر أساس في كتابة الرواية التاريخية ورواية التاريخ). ومن المؤكد أن أي حديث عن دور الروائي بوصفه مؤرخا يحتاج فرزا دقيقا بين ما هو تأريخي وتاريخي. وهو أمر لا يتحقق من دون الأخذ بنظر الاعتبار النظريات التاريخية، وما طرأ في مجال فلسفة التاريخ وعلم الجمال من آراء وتصورات علمية. ومن المنظرين الذين رأوا أن التاريخ علم قائم بذاته وأنه مثل أي علم تتطور نظرياته وتتعدد منهجياته، جاك لوغوف الذي ساهم في تحديث الكتابة التاريخية مطلع القرن العشرين. ومن بعده مارك بلوخ الذي أسس عام 1929 مع لوسيان فيفر مجلة (الحوليات) في فرنسا بهدف تجديد دراسة التاريخ وإغناء منهجه. وكان لتنظيرات هايدن وايت وبول ريكور وميشيل فوكو أثر كبير في النظر إلى التاريخ بوصفه سردية صغرى تحكي ما يحتمل أنه حصل من وقائع موضوعية في الماضي الغابر.
وكان لهذه التحديثات والتنظيرات في مجال الكتابة التاريخية أن ساهمت في إعادة النظر إلى دور المؤرخ، ومن يحق له القيام بهذا الدور. فذهب بعض منظري السرد إلى النص على أهمية التخييل في أداء هذا الدور. وذهب بعضهم الآخر إلى العكس وهو أن الروائي لا يصير مؤرخا إلا بترك التخييل عند كتابة الرواية التاريخية. وهو ما تمثله أطروحة غي تويليه وجان تولار وفيها (أن الروائي الذي يعوزه التخيل قد يتحول إلى مؤرخ، إنه يقحم الحياة في كتابه ولكن تجارب الروائيين الذين غدوا مؤرخين لا تكاد أن تكون ناجحة إلا في حالات استثنائية نادرة) وهو رأي ينطلق من بديهية جاهزة تقول، إن التاريخ علم وإن المرء لا ينجح في دراسته إلا إذا أهمل التخييل السردي؛ فالتاريخ ليس قصصا، بل هو كتابات علمية. والاعتراض على هذا الرأي يأتي من حقيقة أن التخييل عنصر مهم من عناصر الأدب، ولا يمكن بأي حال من الأحوال إهماله هذا أولا، وثانيا أن المؤرخ لا يعرف بالضرورة كل ما حدث ضمن الواقعة، التي هو بصدد الحديث عنها ومن ثم هو بحاجة إلى التخييل.
إن هذا التفاوت في المواقف تجاه التخييل ودور الروائي في كتابة التاريخ كان عاملا مهما في تجريب كتابة السرد التاريخي. واستطاع إمبرتو أيكو أن يجدد في هذا المجال، فكتب (اسم الوردة) 1980 وهي رواية تاريخ، تتناول حقبة من العصور الوسطى. وقد وعى بعض كتّاب السرد العرب في الثلث الأخير من القرن العشرين أهمية توظيف المتخيل، فكتبوا رواية تاريخ من قبل أن تُترجم رواية إمبرتو أيكو إلى العربية، ومن قبل أن تصل إلينا تباشير المنظرين الغربيين. وفي هذا دليل على الفهم العالي للفارق الجوهري بين الواقعي والتأريخي والتاريخي. ومن المبهج أن يَكثر منذ مطلع الألفية الثالثة عدد كتّاب الرواية التاريخية ورواية التاريخ.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد