الإسلام السياسي من أزمة المصطلح إلى أزمة النخب

mainThumb

20-12-2024 07:37 PM

وزارة الخارجية البريطانية قدّمت تعريفا للإسلام السياسي مفاده : “تطبيق القيم الإسلامية في الحكومات الحديثة، من خلال المشاركة في العملية السياسية، وفي بعض الحالات تكون هذه المشاركة تكتيكية، وليست مستمدة من إيمان أو التزام بالقيم والعلميات الديمقراطية، ويمكن أن يشمل مفهوم الإسلام السياسي جماعات متطرفة ومعارضة للديمقراطية، أو معادية للغرب والليبرالية."

الدولة البريطانية شُغلت بـــ" الإسلام السياسي " وما ينضوي تحته من جماعات إسلامية , في تقريرين , أحدهما من وزارة الخارجية البريطانية والمقتبس منه التعريف السابق , والآخر للبرلمان البريطاني , والمنشور على موقعه الرسمي في الانترنت .معيدا الجدل حول أسلمة السياسة.

يقودنا هذا الطرح الاستراتيجي العالمي حول " الإسلام السياسي" إلى تساؤلات أهمها :

أين المشكلة في " الإسلام السياسي " ؟! هل المشكلة عند المصطلح ذاته ؟! أم عند النخب الذين يتعاملون مع المصطلح كأمر واقع ؟! أم أنّ هناك دين إسلامي عند النخب التي تقول أن الإسلام لا يجب أن يقترب من السياسة غيرذلك الدين الإسلامي الذي نعرفه منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اليوم ؟! وهل " الإسلام السياسي " ضد الوطنية والدولة الوطنية , وبناءها والسير بها نحو الطموح المنشود ؟! أم أن هناك حلقة مفقودة بين كل هذه الأضلع ؟!!

"الإسلام السياسي" تمتد جذوره الى مرحلة ما بعد اسقاط " الخلافة العثمانية" على يد القوميين الأتراك في الربع الأول من القرن العشرين المنصرم , فانقطع بذلك النظام السياسي الإسلامي القائم على " الخلافة " كمفهوم سياسي للعالم الإسلامي , فقامت عدة تنظيمات وجماعات وأحزاب إسلامية كردة فعل طبيعية لاستعادة نظام " الخلافة الإسلامية" كنظام سياسي , قبل ولادة مفهوم " التعددية السياسية " في العالم العربي تحديدا ومفهوم الأحزاب وغيرها , قادت مرحلة التحرر من الاستعمار , وقدمت الكثير الكثير من الدماء والاشلاء باسم " الجهاد " , هذا المصطلح الذي أصبح يثير حساسية الكثير من أصحاب التوجهات غير الإسلامية , نتيجة اثبات فعاليته بشكل منقطع النظير في الدفاع عن الامة الإسلامية بحد السيف ان استلزمت المرحلة ذلك , وفشل أصحاب التوجهات غير الإسلامية في الحشد للمواجهة نتيجة فقدانهم الحد الأدنى من الثوابت التي تؤمن بها الأمة بالعقل الجمعي العام.

هذه التيارات والجماعات والأحزاب , اصطلح على تسميتها بــ"الحركة الإسلامية " . في إشارة الى أنها تسعى الى استعادة " الدور الإسلامي السياسي" في حياة الأفراد والمجتمعات بشكل عام , منطلقة من المفهوم " الشمولي للإسلام " عقيدة وشريعة ومنهاج حياة متكامل , يبدأ من الفرد المسلم ولا ينتهي عند النظام السياسي الذي يشكل هذا الفرد الفاعل الرئيسي فيه.

غير أن الخصوم من التيارات الأخرى والذين ينتهجون نهجاًُ مغايراً لها , " علمانية " , " اشتراكية " , " شيوعية " , " لا دينيين " ..الخ , اصطلحوا على تسمية هذه الحركة بالمجموع العام بـــ" الإسلام السياسي " في عملية نسخ ولصق للمصطلحات الخارجة عن العالم الإسلامي برمته .

" الإسلام السياسي " كمصطلح عند المغاير للتيار الإسلامي , يتم استخدامه للدلالة على الفصل بين الإسلام عن الحياة والسياسة , وهي فكرة مستوردة من الغرب بشكل رئيسي , نتيجة ملابسات تاريخية تخص الغرب نفسه لا الشرق .

إضافة " سياسي " الى "الإسلام " لتشكل مصطلح , توحي بأن السياسة لا علاقة لها بالإسلام وليست جزءاً منه , وكأن الإسلام ليس له علاقة بشؤون الحياة بشموليتها , وبالتالي فإن الحركة الإسلامية كما اصطلحوا على تسميتها , أقحمت نفسها في معترك السياسة ودهاليزها لتحقيق أهداف ليست من أهداف الإسلام , وأنها استغلت الدين الإسلامي ووظفته لتحقيق السيطرة على الحكم و السياسة في البلاد الإسلامية , هذا من جانب.

ومن جانب آخر , فإن مصطلح " الإسلام السياسي " حصر الإسلام في جانب واحد وهو السياسة , مما يدل على وجود أنواع متعددة منه , فهناك " الاقتصاد الإسلامي " و " اجتماع سياسي " و"اسلام عروبي " مروراً بــ" اسلام أمريكي " و " اسلام شيوعي" و" اسلام علماني " وتوقفاً عند " اسلام وطني ".

ومن جانب ثالث , المصطلح رسّخ مصطلح آخر يتم استخدامه بكثافة عالية في الدراسات السياسية وعلم الاجتماع السياسي وهو " الاسلاموية السياسية " كمرادف لمصطلح " الاسلاموفوبيا" في المفهوم الغربي , ومن ذلك استخدام الكاتب المصري " محمد حسنين هيكل " المصطلح في كتابه "خريف الغضب " , حيث جعل الجزء الثالث من الكتاب يحمل عنوان " الإسلام السياسي" مرسّخاً مصطلح فرعياً من خلاله ما أسماه " الأصولية الإسلامية " مرادفاً لمصطلح " الإسلام السياسي " , حيث وضّح قصده بالمصطلح أن الأصولية الإسلامية تريد العودة إلى " الأصول الإسلامية " الأولى , وذلك ضمن مسار استعراضه لجذور الجماعات الإسلامية التي استخدمت العنف ضد المجتمع والدولة في عهد السادات .


المجموع العام من الكُتّاب والإعلاميين والسياسيين وجمع لا بأس به من علماء السياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع السياسي في مصانع الفكر في العالم الإسلامي المتمثلة بالمراكز البحثية والجامعات والمجلات المتخصصة , الذين يتصارعون مع " الإسلام السياسي" كثّفوا استخدام تلك المصطلحات والمفاهيم السلبية وغيرها , في اطار سيرهم وتماهيهم مع الخارج الإسلامي من باب " اتباع المغلوب للغالب " , حيث نجحوا الى حد كبير في ترسيخ هذه المصطلحات , وإيجاد شروخ تخويفية عامة ضد " الحركة الإسلامية" في المجتمع المسلم نفسه , مما أعطى شرعية عامة لممارسة التطرف الاقصائي ضد هذه الحركة , تحت مسميات متعددة , وصلت الى حد اباحة دماء وأموال مَن يعتقد بها , في بعض المجتمعات الإسلامية .

لا ننكر أن "خطاب الكراهية " ضد الحركة الإسلامية في العالم الإسلامي , وجِد مِن النخب المختلفة على الصعيد السياسي والإعلامي والاجتماعي مَن يغذيها , من خلال استغلال وقود خطاب التيارات المتطرفة التي تم دمجها زوراً وبهتاناً بالحركة الإسلامية على المستوى الخطاب العام , مثل " داعش ".

مع ملاحظة أن هذه "النخب " غضّت الطرف عن رد الفعل الطبيعي لبعض الحركات الإسلامية في بعض الدول في حقها الطبيعي بالدفاع عن نفسها وعن دمائها واموالها وحريتها وحقها الطبيعي في الحياة لأفرادها , عدا عن حقها الطبيعي في الوجود , وذلك في ردها على قمعها الدموي المتطرف من بعض الأنظمة العربية والإسلامية كحالة " الاخوان المسلمين " في الحالة السورية في عهد نظام الأسد السابق في مدينة " حماة "

لم يتركوا أي شاردة وواردة إلا واستغلوها في " خطاب الكراهية " ضد الحركة الإسلامية وايغار الصدور عليها , فاستغلوا تطرّف " داعش " ومَن سار على نهجها , بأجنحتها المختلفة , في القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية المتعددة , كالمواطنة والحرية والمرأة وغيرها , لإسقاطه على " الإسلام السياسي" , ليرسّخوا ذلك الخوف في المجتمعات الإسلامية من " الرجعية والتخلف والجمود الفكري " للإسلام السياسي .

مزامنة مع استيراد دراسات لغير مسلمين لا حضارة ولا ديانة , وعمموها على المجتمعات الإسلامية , ليثبتوا ما أسموه فشل " الإسلام السياسي " , فنشروا أبحاثاً وكتباً ودراسات مختلفة مستوردة , عدا عن مواد إعلامية مقروءة ومسموعة ومرئية , كلها منبثقة عن دراسات خارجة عن العالم الإسلامي , ومنها على سبيل المثال لا الحصر , كتاب المستشرق الفرنسي ( أوليفية روا) والمعنون بـــ" فشل الإسلام السياسي " والمنشور في عام 1992 , حيث جعلوه أساساً لجميع ما ينشرونه على مختلف الصعد من اكاديمية وإعلامية وثقافية واجتماعية .

قام آخرون بمشابهة هذا المستشرق في التأليف والأبحاث والمقالات الإعلامية وغيرها , بعناوين مختلفة مثل " مأزق الإسلام السياسي " , " أزمة الإسلام السياسي " , " انحسار الإسلام السياسي " , " تهشّم الإسلام السياسي " , " ما بعد الإسلام السياسي " ..الخ.

والسؤال الذي يجب أن يتم طرحه , ولا نخجل منه مطلقاً , هل استغل بعض الأفراد وبعض الجماعات الدينَ لتحقيق أهداف دنيوية سياسية أو غير سياسية؟

الجواب قطعاً نعم , وظلّ كثيرٌ منهم يفعل ذلك على مر التاريخ , ومع كل رسالات الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلوات والسلام , والقرآن الكريم حذّر منهم , وأوجب التحذير منهم , مبيّناً الأسباب وطرق التعامل معهم .

فالذين يستخدمون هذا المدخل للتحذير من " الإسلام السياسي " لم يأتوا بجديد، ولو تتبعنا منطقهم لتركنا المساجد بالكلية على سبيل المثال لا الحصر، حيث أن بعض المنافقين استغلوا بناء المساجد لأسباب سياسية كما اخبر بذلك الله تعالى في محكم كتابه العزيز، وقد أسماها بمساجد " الضرار " , قال تعالى في سورة التوبة : ﴿ والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون ﴾ [ التوبة: 107]

ومع ذلك كانوا يحلفون أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم ما أرادوا إلا الاصلاح لا بل ما هو فوق الإصلاح وهو " الحسنى " , وشهد الله تعالى أنهم كاذبون وما أرادوا الا الهدم ومحاربة النظام الإسلامي برمته وهدمه فوق رؤوس المسلمين.

و لكن هل " الإسلام السياسي " الذي يتحدث عنه هؤلاء ويغذّون " خطاب الكراهية " ضده في المجتمعات هو نفسه " الإسلام السياسي " الذي يمثلّه أبناء التيار نفسه ؟!!

الدكتور ( مصطفى محمود ) , في كتابه " الإسلام السياسي والمعركة القادمة " شرح قواعد الإسلام السياسي الذي يمثلّه افراد التيار نفسه ,المتمثلة بتجاوز الإصلاح الفردي الى الإصلاح الاجتماعي والحضاري , وهو الإسلام الذي ينازعهم السلطة في توجيه العالم وبنائه بقيم أخرى , وهو الإسلام الذي يريد أن يحرّك الحياة بمبادئ مختلفة , الإسلام الذي يريد أن ينهض بالثقافة والعلم والاختراعات والتكنولوجيا , ولكن لغايات أخرى غير التسلط والغزو والعدوان والسيطرة .

" الإسلام السياسي" يمثّل أزمة مصطلح مستورد من سياق تاريخي وعلمي وسياسي مختلف , ويتم استخدامه كبديل عن الإسلام كنظام حياة شامل , وان كان لا بدّ من استخدامه فلا بدّ من التفريق بين الإسلام السياسي الذي يعرفه الأحرار , والإسلام السياسي الذي يريده العبيد بتشويهه المقصود وغير المقصود , وهو الدبن الذي يوظّف لخدمة السياسة لا قائدا لها , وبالتالي يتعايش مع الاستبداد والفساد والظلم والتبعية والاحتلال بمختلف أشكاله وصوره .

" الإسلام السياسي " أزمة نخبة تتصارع معه , تستورد مفاهيمها من الغرب والشرق ,لترسيخ اطار فكري وسياق تاريخي مختلف عن إطار الأمة وسياقها , وتحتكر مفهوم الإسلام والوطنية في إطار مدرستها الفكرية السياسية .

" الإسلام السياسي " دين العدل لا المساواة , ( إن من الناس مَن يستعمل بدل العدل المساواة ؛ وهذا خطأ ، لا يقال : مساواة ؛ لأن المساواة تقتضي التسوية بين شيئين ، الحكمة تقتضي التفريق بينهما ، ومن أجل هذه الدعوة الجائرة إلى التسوية صاروا يقولون : أي فرق بين الذكر والأنثى ؟ سووا بين الذكور والإناث ، حتى إن الشيوعية قالت : أي فرق بين الحاكم والمحكوم ؟ لا يمكن أن يكون لأحد سلطة على أحد حتى بين الوالد والولد، ليس للوالد سلطة على الولد ، وهلمَّ جرّا .

لكن إذا قلنا بالعدل وهو " إعطاء كل أحدٍ ما يستحقه " : زال هذا المحذور ، وصارت العبارة سليمة ، ولهذا لم يأت في القران أبداً : " إن الله يأمر بالتسوية " لكن جاء : { إن الله يأمر بالعدل } ، { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } ) ....( شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين رحمه الله تعالى ).






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد