تحديات بناء سوريا الجديدة

mainThumb

17-12-2024 05:19 PM

المنطقة الإقليمية تمر بمرحلة حرجة تُعرف بتسارع الأحداث وظهورها المفاجئ، مع تداعيات سياسية وأمنية واسعة النطاق. الوضع في سوريا يظل أحد أكبر عوامل عدم الاستقرار، حيث أصدرت الخارجية الأمريكية مؤخراً بياناً يدعو مواطنيها لمغادرة البلاد، مشيرةً إلى تقلبات أمنية عميقة واستمرار الصراع المسلح. البيان لم يكن مجرد تحذير، بل يعكس رؤية استراتيجية لإدارة الوضع في سوريا في ظل فشل جهود التوصل إلى حلول سياسية واضحة.

منذ اندلاع الأزمة السورية، خضعت البلاد لتحولات معقدة تركت بصمتها على المشهدين الإقليمي والدولي. الأطراف الدولية والإقليمية الرئيسية، بما فيها الولايات المتحدة وتركيا وروسيا وإيران، لا تزال تعمل على استغلال الفراغ السياسي والأمني، في حين يواجه الشعب السوري تحديات متزايدة تتعلق بوحدة الأرض واستقلال القرار. على الرغم من الحديث المستمر عن ضرورة صياغة دستور جديد يعيد بناء الدولة على أساس ديمقراطي، إلا أن هذا الطموح يواجه عقبات هائلة بفعل تداخل المصالح الدولية والإقليمية.

الجهود الدولية، من بينها القرار الأممي رقم 2254، وضعت خريطة طريق لإنهاء النزاع السوري تشمل مرحلة انتقالية وتشكيل هيئة حكم جامعة. مع ذلك، تعثرت هذه المحاولات نتيجة استمرار تدخل قوى خارجية مثل إسرائيل، التي تواصل توجيه ضربات عسكرية داخل الأراضي السورية، وتركيا، التي تسعى إلى تعزيز نفوذها في الشمال السوري تحت ذريعة مكافحة الإرهاب. إيران أيضاً تُظهر تصميماً على البقاء لاعباً رئيسياً في المشهد السوري، رغم التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها.

الوضع الحالي في سوريا يُبرز ثلاثة سيناريوهات رئيسية قد تتحقق في المستقبل القريب. الأول يتمثل في نجاح المعارضة في تشكيل حكومة شاملة تدير شؤون البلاد وتبدأ عملية انتقال سياسي. هذا السيناريو يبدو بعيد المنال في ظل الانقسامات العميقة بين الفصائل المسلحة والتوترات الطائفية. السيناريو الثاني يتمثل في تصاعد الاقتتال الداخلي بين الفصائل المختلفة، مما قد يؤدي إلى تقسيم البلاد إلى أقاليم طائفية وإثنية متناحرة. أما السيناريو الثالث فهو استمرار الفوضى السياسية والأمنية لفترة طويلة، مع غياب أي سلطة مركزية قادرة على فرض الاستقرار.

المخاطر الديموغرافية والدينية التي تواجه سوريا تُضاف إلى هذه التحديات، حيث تعكس الانقسامات الطائفية والعرقية تهديداً حقيقياً لاستقرار البلاد على المدى الطويل. في هذا السياق، تسعى دول مثل تركيا وإيران إلى استغلال الوضع لتعزيز مصالحها الاستراتيجية، بينما تواصل الولايات المتحدة وإسرائيل مراقبة الأحداث عن كثب مع تنفيذ أجنداتهما الخاصة.

التحركات الدولية الأخيرة، بما في ذلك الاجتماعات في العقبة والدعوات إلى عقد مؤتمر حوار وطني سوري، تعكس جهوداً جديدة للتعامل مع الأزمة. ومع ذلك، لا تزال التحديات الكبرى قائمة، بدءاً من إعادة بناء المؤسسات السورية ووصولاً إلى معالجة القضايا الحساسة مثل عودة اللاجئين ورفع العقوبات الدولية.

دولياً، تبقى سوريا محوراً رئيسياً للصراعات الإقليمية، مع توتر في العلاقات بين القوى العظمى. فروسيا، رغم انشغالها بأزمات أخرى، تسعى للحفاظ على مواقعها الاستراتيجية في سوريا. تركيا، من جانبها، تستغل انقسامات المعارضة لتعزيز سيطرتها في الشمال السوري. أما إيران، فتسعى جاهدة للحفاظ على نفوذها في مواجهة الضغوط الإسرائيلية والأمريكية. كل ذلك يحدث في ظل تراجع الحضور العربي، مما يُضعف قدرة الدول العربية على التأثير في مسار الأحداث.

من الناحية الإسرائيلية، يبدو أن هناك تصعيداً ملحوظاً في العمليات العسكرية داخل سوريا، حيث استهدفت الهجمات الأخيرة منشآت دفاع جوي ومستودعات صواريخ. إسرائيل تسعى لضمان تفوقها الأمني في المنطقة ولمنع إيران من تعزيز وجودها العسكري في سوريا. هذه التطورات تضع مزيداً من الضغط على الأطراف السورية المختلفة وتزيد من تعقيد الوضع الداخلي.

الانتقال إلى مرحلة سياسية مستقرة يتطلب توافقاً دولياً وإقليمياً نادراً، فضلاً عن إرادة سياسية داخلية حقيقية. المستقبل السوري مرهون بقدرة القوى المعارضة على تجاوز خلافاتها الداخلية والعمل بشكل موحد لتحقيق مصالح الشعب السوري. كما أن المجتمع الدولي بحاجة إلى تغيير نهجه لدعم عملية انتقالية حقيقية تتجاوز الخطاب السياسي إلى تطبيق فعلي للقرارات الدولية.

الأوضاع الراهنة، مع استمرار التدخلات الأجنبية والانقسامات الداخلية، تجعل من الصعب التكهن بمسار الأزمة السورية. ولكن في نهاية المطاف، لا يمكن تحقيق الاستقرار دون إرادة وطنية حقيقية تجمع كافة الأطياف السورية على رؤية مشتركة لمستقبل البلاد.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد