دور رعاية المسنين بين الضرورة والمأساة

mainThumb

14-12-2024 09:52 PM

وبالوالدين إحساناًقال الله تعالى في محكم كتابه: "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" (الإسراء: 23)، وهو أمرٌ صريحٌ من الله عز وجل ببرّ الوالدين والإحسان إليهما في كل مراحل حياتهما، لا سيما في الكِبر حيث يشتدّ احتياجهما للرعاية والحنان. كما قال رسول الله ﷺ: "رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة" (رواه مسلم).

ورغم هذا التوجيه الإلهي والنصيحة النبوية، نشهد في مجتمعاتنا المعاصرة ظاهرة تزايد إرسال كبار السن إلى دور الرعاية، سواء لأسباب متعلقة بغياب القدرة على العناية بهم أو لضغوط الحياة، وفي بعض الأحيان نتيجةً لتقصير الأبناء أو تجاهلهم لواجباتهم تجاه آبائهم.

لكن السؤال الذي يجب أن نسأله لأنفسنا: هل تُعد دور الرعاية بديلاً حقيقياً عن دفء المنزل وحنان الأسرة؟
في الواقع، مهما بلغت جودة الخدمات التي تقدمها هذه الدور، فإنها تفتقر للجو العائلي الذي يحتاجه كبار السن في آخر أيامهم. كثيراً ما يعاني المسنون في هذه المؤسسات من الوحدة والإحساس بالإهمال، حتى وإن كانت ظروفهم الصحية تقتضي وجود رعاية متخصصة. إن غياب الوجوه المألوفة والأصوات المحببة يجعلهم يشعرون بالعزلة، وهو أمر قد يؤدي إلى تفاقم حالتهم النفسية والجسدية.

ولا يمكننا في هذا السياق إلا أن نستذكر حادثة مأساوية مؤلمة حدثت في الأردن، حين شبّ حريق في دارٍ لرعاية المسنين وراح ضحيته ستة أشخاص، وأصيب ستة وستون آخرون. تلك الحادثة لم تسلط الضوء فقط على خطر الإهمال في تطبيق معايير السلامة داخل هذه الدور، بل أيضاً على ضعف الاهتمام المجتمعي بهذه الفئة، التي كان يمكن أن تكون في وضع أفضل لو أن كل أسرة اهتمت برعاية كبارها.

من جهة أخرى، يجب أن نكون منصفين في النظر إلى قضية دور الرعاية. هناك أسر لا تجد بديلاً عن إرسال والديها إلى هذه المؤسسات بسبب ظروف قاهرة مثل انشغال الأبناء بالعمل أو افتقارهم إلى الإمكانيات اللازمة لتوفير الرعاية الصحية اللازمة للوالدين. في مثل هذه الحالات، تصبح دور الرعاية ضرورة لا مفر منها، لكنها تبقى خياراً مشروطاً بحاجة لمتابعة دقيقة من قبل الأبناء للتأكد من جودة الرعاية المقدمة، والحرص على زيارتهم بشكل منتظم لإبقاء صلة الحب والود قائمة.

إن مشاعر الأبناء الذين يستلمون جثامين آبائهم من هذه الدور تُلخص مأساة كبيرة. كثيرون يندمون على لحظات مضت لم يكونوا فيها قريبين بما يكفي من آبائهم، ويتمنون لو أنهم قدموا المزيد من الرعاية والاهتمام. فكما كان الوالدان يوماً مصدر الحنان والرعاية لأبنائهم، فإن واجب الأبناء اليوم أن يردوا هذا الجميل.

وفي هذا الإطار، لابد أن نعيد النظر في مفهوم البرّ بالوالدين في مجتمعاتنا، وأن نعمل على تعزيز فكرة "الرعاية الأسرية". يجب أن نتعلم من سيرة نبينا ﷺ، الذي ضرب لنا أعظم الأمثلة في برّه بأمه وأبوه حتى بعد وفاتهما، فقد كان يقول: "إن من أبر البرّ صلة الرجل أهل ودّ أبيه بعد أن يولي" (رواه مسلم).

إن قضية كبار السن ليست مجرد مسألة فردية تخص أسرة بعينها، بل هي مسؤولية مجتمعية ودينية مشتركة. فمن واجب الحكومات والمجتمعات توفير بدائل أكثر إنسانية لرعاية كبار السن، من خلال دعم الأسر مادياً ومعنوياً لتتمكن من القيام بهذا الواجب. كما يجب تشديد الرقابة على دور الرعاية لضمان التزامها بأعلى معايير السلامة والكرامة الإنسانية.

وإن الإحسان إلى الوالدين ليس مجرد خيار، بل هو امتحان يُقاس به مدى إنسانيتنا وتديننا. فلنجعلهم يشعرون بأنهم موضع حب ورعاية، سواء كانوا في منازلنا أو في أي مكان آخر. ولنتذكر دائماً أن برّنا بهم اليوم هو امتداد لبرّ أبنائنا بنا غداً.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد