عصر الوجع: بين كبسة زر وزلزال أرواحنا

mainThumb

12-12-2024 10:27 PM

إنه عصر الوجع بلا منازع، حيث تتكالب الأحداث وتتكشف الحقائق بلا رحمة. عصر الذكاء الاصطناعي، الذي أعاد تشكيل العالم بطرق لا يمكن للعقل أن يتخيلها. هو ذاك الذي وُلد من عباءة العلم، لكنه غلّفها بوحشية لم نعهدها من قبل. أمد الحروب بذكاء جديد، جعلها أشرس وأقسى، حتى باتت المدن تُمحى بكبسة زر، وتُطوى الحضارات كصفحات كتاب تُرمى في غياهب النسيان.
هو عصر الوحوش، لكنه ليس عصراً جديداً. الوحوش كانت دائماً بيننا، تتربص بآمالنا وأحلامنا. إسرائيل، التي لا تشبع من الدم، سفكت ماء الحياة في غزة، وحوّلتها إلى أرض لا تنبت سوى الرماد. غزة، التي كانت يوماً مشعلاً للكرامة والصمود، أصبحت اليوم شهادة حية على فظاعة الوحوش. مدنها دُمرت، أهلها شُردوا، ومعالمها اندثرت كما لو لم تكن.
لبنان، هو الآخر، لم يسلم من مخالب هذا الوحش. دُمّرت قراه، شُرّد أهله، وعُلّقت ذاكرته على مشجب الحروب التي لا تنتهي. إسرائيل التي لا تزال تتربص بالسماء اللبنانية، تجوبها كيفما تشاء، كأنها تخيط عليها علماً من القهر والاستعباد. وما زاد الطين بلة، أنها وجدت في سقوط النظام السوري المتوحش فرصة ذهبية. هكذا شلّت قدرات سوريا الحربية، دمرت منظومتها الدفاعية، واستولت على الأرض العازلة، كمن كان ينتظر سقوط حائط ليبني عليه قلعته.
لكن إسرائيل ليست الوحش الوحيد في القصة. نحن أيضاً ضحايا لعنة الداخل، لعنة الديكتاتوريات التي توارثتها الأجيال كمرض مزمن. حكامنا، منهم من أطاحت بهم شعوبهم بعد أن ملّت القيد، ومنهم من بقي رغم صرخات الحرية. وبين هذا وذاك، يبقى الشعب منكسراً بين خوف الأمس ورعب الغد.
وفي قلب هذا الظلام، يقف بشار الأسد، الذي رحل جسداً، لكن شبحه يطاردنا ككابوس. ليس هو فقط، بل عائلته وكل ما زرعوه من قسوة وبطش. لقد كانت سجونهم مصانع للموت. كتبت إنعام كجه جي عن هؤلاء الخارجين من قبور الظلم: «يخرج المعتقلون من الزنازين المظلمة وهم ما بين دموع وفرح أبله. يسيرون تائهين في شوارع لا يتذكرونها. يصلون بيوتهم والبكاء يسبق العناق. المهمة الأولى، قبل الاستحمام، إرسال من يحضر دواء للقمل من أقرب صيدلية. وعندما لا يتوفر فلا بأس من صب الكاز على شعر الرأس واللحية والجسم. يُمنح الخارجون من الأقبية ثياباً نظيفة صارت أكبر من مقاساتهم. تطبخ لهم الأمهات والزوجات أكلاتهم المفضلة ويأكلون لقيمات ويشبعون. كم أن العودة إلى الحياة الطبيعية صعبة!»
تلك الكلمات، التي كتبتها كجه جي بصدق جارف، أعادتني إلى صور الأطفال الذين وُلدوا في الزنازين، بلا هوية ولا ملامح واضحة للحياة. طفل لا يعرف معنى الحرية، لا يدرك شكل العالم. كل ما رآه هو زنزانة رمادية، وأم منهكة تبكي حين تكون بجانبه، وحين تبتعد عنه تُساق لتُغتصب، لتُهان، لتُعذب.

قصة العصفور… حكاية لم تروَ

ذلك الطفل، يعيدنا إلى ما رواه المعارض السوري الراحل ميشال كيلو، حين طُلب منه أن يروي قصة لطفل صغير في السجن. بدأ قائلاً: كان هناك عصفور صغير، فقاطعه الطفل: ما هو العصفور؟ أجابه كيلو: هو طائر يعيش في الشجرة. فسأله الطفل مجدداً: ما هي الشجرة؟ يومها، أدرك كيلو أن اللغة عاجزة، أن الكلمات لا تحمل المعنى ذاته لمن لم يرَ شيئاً من الحياة سوى العتمة. فغنّى له أغنية، لكنه خرج من تلك اللحظة مهزوماً، كمن أدرك عبث محاولاته.
نحن اليوم محاصرون بالخوف. الخوف من الماضي، الذي يطل برأسه من كل زاوية، ومن الحاضر الذي لا نعرف أين تقودنا دوّاماته. بات الخوف مارداً يسكن أعماقنا، يرافقنا في كل لحظة. نخشى أن يخرج شبح الأسد من درج المطبخ، من خزائن غرفة النوم، من تحت الكنبة. صار الرعب جزءاً من تكويننا، لا نعرف إن كنا نحن البشر أم أننا أصبحنا أطياف هذا الخوف.
ثم يأتي الحديث عن المسالخ البشرية، عن طواحين الموت التي تُفرم البشر وهم أحياء، لتُعبأ أجسادهم في أكياس تُرمى دون أثر. وحشية آل الأسد، تلك العائلة التي لا يمكن وصفها إلا بأنها خطأ بشري جسيم. كائنات خرجت عن نطاق الإنسانية، واستقرت في قاع الشر المطلق.

حكاية عمر ضاع خلف القضبان

إنه شاب في الثامنة عشرة من عمره، بالكاد بدأ يخطو خطواته الأولى في الحياة، أُلقي في غياهب سجن صيدنايا، ذاك المكان الذي لم يكن سجناً بقدر ما كان مسلخاً بشرياً. دخل وهو مراهق يملؤه الحلم والفضول، وخرج بعد عشرين عاماً، رجلًا في الثامنة والثلاثين، لا يعرف ملامح وجهه في المرآة.
داخل تلك الجدران الملطخة برائحة العفن والدم، لم يكن للوقت معنى. كان يومه يشبه أمسَه وغده، سوى أن كل يوم يحمل نوعاً جديداً من الألم. في صيدنايا، تُمحى الهويات، تُنسى الأسماء، ويتحول الإنسان إلى رقم أو صرخة مكتومة. من شدة التعذيب، نسي كثير من المعتقلين أسماءهم. كان السجانون، بأصواتهم الجافة وأياديهم الثقيلة، ينهالون على الأجساد الضعيفة بعنف يطفئ آخر شرارات الإنسانية.
هؤلاء المساجين، الذين خرجوا بعد عقود من الظلم، لم يخرجوا حقاً. أجسادهم خرجت، لكن أرواحهم بقيت معلّقة هناك، بين أسقف الزنازين وجدران التعذيب. خرجوا بعيون خاوية، ووجوه لا تعرف الابتسام. بعضهم لم يعرف إلى أين يذهب، إذ كان بيته قد دُمّر، أو عائلته قد اختفت. كيف يمكن لرجل عاش عشرين عاماً بين صوت السلاسل وصرخات الإعدام أن يتعلم من جديد معنى الحياة؟
صيدنايا، التي عُرفت بالمسلخ البشري، لم تكن سجناً عادياً. كانت مقبرة للأحياء. على مدى عقود، تكدس في أقبية هذا السجن عشرات الآلاف من المعتقلين. كانوا يتعرضون لكل أنواع التعذيب: الضرب حتى الموت، الصدمات الكهربائية، الإذلال اليومي. وبالنسبة لكثيرين منهم، كانت النهاية واحدة: الإعدام الجماعي تعذيبا. تُنقل الأجساد المنهكة من التعذيب إلى حبل المشنقة، أو تُرمى في حفر جماعية، كأنها لم تكن يوماً أرواحاً تنبض.
كيف يمكن للمرء أن ينسى شهادات الناجين الذين رووا عن زملاء لهم فُقِدت ملامحهم تحت سياط الجلادين، أو عن جثثٍ كانت تتكدس في الزنازين دون أن تتحرك مشاعر أحد؟ كيف يمكن نسيان قصص الذين كانوا يُقتادون في الليل ولا يعودون؟
شاب في الثامنة عشرة من عمره خرج بعد عشرين عاماً لا يحمل شيئاً من ماضيه. اسمه، الذي نسيه، ربما استُبدل برقم على لائحة السجناء. حياته توقفت عند لحظة اعتقاله، لكنه خرج إلى عالمٍ لا يشبه شيئاً مما كان يعرفه. ما الذي تبقى من حلمه؟ من صوته؟ من إنسانيته؟
في سجون كهذه، لا يموت الإنسان جسداً فقط، بل يموت كل يوم روحاً. يموت في كل صرخة لا تجد صدى، في كل نظرة مرتجفة نحو نافذة مستحيلة. سجن صيدنايا لم يكن مجرد مكان، بل كان رمزاً لكل ما يمكن أن تفعله الوحشية بالبشر، لكل ما يمكن أن تدمّره الديكتاتوريات حين تنزع عن الإنسان قيمته وتحيله إلى مجرد ظل.
لكننا، رغم كل هذا الظلام، نحاول أن نحيا. نحاول أن نحكي، أن نكتب، أن نحافظ على ذاكرتنا حيّة، كمن يزرع وردة في صحراء قاحلة. لعل الحكايات تنقذ شيئاً من إنسانيتنا، لعلنا نتمسك بخيط رفيع من النور، وسط هذا الليل الذي يبدو أنه لم ينته بعد.

كاتبة لبنانيّة



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد