من وحي سجن صيدنايا

mainThumb

11-12-2024 11:35 PM

عندما رأيت تلك الوجوه المنهكة الخارجة من ظلام السجون، شعرت وكأن شيئًا قد انكسر بداخلي.

كانت أجسادهم تنوء بثقل سنواتٍ من القهر، لكن أرواحهم، رغم ما مرّت به، ظلت تحمل بريقًا خافتًا يعاند العدم.

كل وجه كان رواية صامتة، تحكي عن ليالٍ بلا فجر، عن خوفٍ لا ينتهي، وعن انتظارٍ مُرّ لا يحمل وعدًا بالخلاص. في تلك اللحظة، شعرت بالخجل، خجل من كل لحظة شعرت فيها أن حياتي صعبة، وكل مرة ظننت أنني أعيش تحت وطأة الابتلاء.

كيف يمكن لعقلٍ بشري أن يستوعب مشاهد كهذه؟ في صيدنايا، السجن الذي تحول إلى مصنع للموت، حيث تقوّست ظهور الأحياء من الجوع والهزال، وتراكمت جثث الموتى في الزوايا كأنها قطع مهملة من الحياة. كان الموت هناك ضيفًا يوميًا، يأخذ من يشاء ويترك الأحياء يواجهون كابوسًا جديدًا كل صباح. المغتصبون والمغتصبات لم يكونوا ضحايا أفرادًا فقط، بل كانوا شهودًا على جريمة جماعية ضد الإنسانية، جريمة تُنكر فيها أرواحهم قبل أجسادهم.

وهناك، بين تلك الجدران الكئيبة، مات البعض وظلت جثثهم أيامًا ملقاة في الزنازين، يستخدمهم الأحياء كوسائد في لياليهم الباردة، وكأن الموت كان أرحم من الحياة التي فرضت عليهم.

كم كنّا نعيش في دائرةٍ صغيرة، نضخّم أوجاعنا وكأنها نهاية العالم، بينما هناك من يواجهون ما لا يخطر ببالنا! رأيت في عيونهم أثر العتمة التي تسكن الزنازين، لكنها لم تطفئ نور الأمل تمامًا.

تخيلتُ نفسي مكانهم: أن تحيا بين أربعة جدران ضيقة، بلا زمنٍ تعرف بدايته من نهايته، أن تصبح اللحظات دهورًا، وأن يتحول الانتظار إلى تعذيب يومي. لا، ليس لأنهم أخطأوا، بل لأنهم كانوا في المكان الخطأ في الزمن الخطأ.

أليس غريبًا أننا نحن، الذين ننعم بكل شيء، نبكي لأقل شيء؟ نشكو من قلة المال، من تأخر الفرص، من خيبة أحلام لم تتحقق بالسرعة التي أردناها.

كم مرة وقفت أمام المرآة غاضبًا لأنك لم تحصل على ما تريد؟ كم مرة شعرت بثقل العالم لأنك تأخرت خطوة؟ وفي كل تلك المرات، كنت تنام على سريرك الدافئ، تأكل طعامك الشهي، وتتنفس هواء الحرية دون أن تحسب له ثمنًا.

لكن ماذا عنهم؟ أولئك الذين قضوا سنواتٍ بين الجدران، لا يرون نور الشمس إلا كذكرى بعيدة؟ ماذا عن الأمهات اللواتي انتظرن أبناءهنّ طويلاً، وقلوبهنّ مثقلة بأملٍ هشّ؟ وماذا عن الذين خرجوا، بأجسادٍ أنهكتها القسوة، وأرواحٍ تبحث عن معنى للحياة بعد كل هذا الألم؟

أدركت أن النعم ليست ما نحصل عليه فقط، بل ما لا نفقده دون أن ندرك قيمته. الصحة، الحرية، الأمان، العائلة... هذه الأشياء التي نعتبرها "طبيعية"، هي بالنسبة لهم حلمٌ بعيد المنال. وعرفت أن الشكر الحقيقي ليس كلمة تُقال على عجل، بل هو حالة قلبية عميقة، تعكس رضًا صادقًا بكل ما لدينا.

اللهم لك الحمد على ما لا نراه، على النعم التي نعيشها دون أن ندرك قيمتها، وعلى الأمن الذي يغمرنا في كل لحظة.

ما أصعب أن ترى معاناة الآخرين دون أن تتحرك بداخلك فكرة: كيف يمكنني أن أعيش وأنا لا أُقدر ما لدي؟ كيف يمكنني أن أشكو وأنا محاط بنعم لا تُحصى؟ تلك اللحظة كانت درسًا. درسًا يجعلني أنظر إلى مشاكلي بحجمها الحقيقي: لا شيء. كل ما كنت أظنه جبلًا أصبح لا شيء أمام جبال المعاناة التي يواجهها غيري.

تلك الوجوه التي رأيتها، تلك الأرواح التي قاومت العدم، حفرت في داخلي شيئًا لن يمحوه الزمن. الآن، كلما شعرت بضيق، أستحضر تلك العيون. كلما أردت أن أشتكي، أتذكر أن هناك من يعيش الألم حقيقة، وليس كدراما من نسج الخيال.

أسأل الله أن يجعلنا من الشاكرين، شكرًا يليق بجلاله، شكرًا بالأفعال قبل الكلمات. وأسأله أن يفرّج عن كل مكروب، أن يعيد الأمل لمن فقده، أن يبدل الخوف أمانًا، والحزن فرحًا.

اللهم احفظ علينا ما أنعمت به، واجعلنا ندرك قيمته قبل أن يُسلب منا. إنها دعوة للتفكير، دعوة لتقدير النعمة، ودعوة للوقوف مع كل مظلوم، لأن الألم لا يزول بالشفقة وحدها، بل بالعمل من أجل أن يصبح العالم مكانًا أقل قسوة.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد