«الفانز» يعيدون كافكا إلى الحياة

mainThumb

02-12-2024 01:47 AM

لنتخيل مشهدين يفصل بينهما قرن كامل يتعلقان بالشخص نفسه: المشهد الأول: عن كاتب مغمور نشر بضع روايات وقصص فقط، يعاني من سوء التغذية وينهش جسمه مرض السل، يشعر من يراه بأنه سيفارق الدنيا قريبا وهو في سن الأربعين فقط، معه صديقه المقرب وهو كاتب يشترك معه في الوطن فهما تشِيكيّان، والديانةِ إذ هما يهوديان، ولغةِ الكتابة: الألمانية، يوصي الروائي صاحبه أن يحرق بعد موته كل مخطوطاته ورسائله، ولكن صاحبه يخالف الوصية عمدا – وحسنا فعل – فيشرع بعد سنة فقط من وفاة صديقه بنشر رواياته تباعا، حتى إن لم تكن كاملة، بل ومع بداية الحرب العالمية الثانية نرى هذا الصديق يركب آخر قطار عابر للحدود التشيكية خائفا يترقّب من ملاحقة النازيين، ولا يحمل سوى حقيبة فيها آلاف الأوراق المكتوبة باليد، ومن ضمنها المخطوطات الأصلية لثلاث روايات بيعت منها في ما بعد ملايين النسخ وترجمت إلى عشرات اللغات. لم يكن الكاتب المغمور سوى فرانز كافكا، أما صديقه فماكس برود الوصي على مؤلفاته وكاتب سيرته!
أما المشهد الثاني: فوقع بعد المشهد الأول بمئة سنة كاملة، أي قبل أشهر قليلة من الآن فقط، وفي زمن السوشيال ميديا وبين مراهقي التيك توك يتحوّل وسمٌ إلى ظاهرة فيروسية في أوساط من يطلق عليهم الجيل زد (Generation Z) وهو الجيل الذي يأتي بعد جيل الألفية، أي الذين ولدوا ما بين منتصف التسعينيات حتى منتصف العقد الأول من القرن الـواحد والعشرين. هذا الوسم الذي بلغ عدد مشاهديه مليار شخص في الصين فقط، كاد أن يحوّل الجيل زد إلى الجيل ك (Generation K) إشارة إلى الحرف الأول من الوسم (الهاشتاغ) #Kafka، وليس هذا الكافكا الذي يشاهد وسمَه الملايين، سوى الكاتب الذي كان مغمورا في حياته شاكّا في موهبته حتى طلب من صديقه إحراق كتبه بعد موته.
ما الذي يُغري جيلا مراهقا يعيش داخل وسائل التواصل الاجتماعي أكثر من عيشه في واقعه، ويُتّهم بالسطحية، واعتبار الكتب كائنات في طورها إلى الانقراض، ما الذي يغريه بهذا الاختيار الذي يبدو بنظرة سطحية خيارا غريبا ومفاجئا، قد نتفهم ببساطة أن يكون رموز التمرد أمثلةً عليا للمراهقين، مثل ما كان الممثل الهوليوودي جيمس دين بطل فيلم «متمرد بلا سبب»، الذي قتل في حادث سيارة شابا، أو فرقة البيتلز البريطانية، أو حتى الشاب المراهق بطل رواية «الحارس في حقل الشوفان»، الذي تحوّل اسمه إلى شعار الشباب الأمريكي في منتصف القرن الماضي «كلنا هولدن كولفيلد». لكن أن يصير ملهمَهم كاتب أربعينيّ عبثيّ انطوائيّ فظاهرة جديرة بالتأمل تدفعنا إلى التساؤل عن السر الكامن وراء ذلك. علما أن كافكا أصبح ظاهرة قبل ذلك بكثير، أي منذ بدأ يتوالى نشر رواياته بعد وفاته المبكرة. فمع الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم ما بين الحربين ثم الحرب العالمية الثانية وويلاتها، واغتراب الإنسان الوجودي في هذا العالم المتوحش، أخذت كتابات كافكا قيمتها الفعلية بغرائبيتها وتشاؤمها وعبثيتها، ويكفي أن جملة «استيقظَ غريغور سامسا مِن أحلامِه المزعجةِ صباحَ يومٍ ما ليجدَ نفسَه في سريرِه متحوِّلا إلى حشرَةٍ عملاقةٍ» أسالت حبرا كثيرا يشكّل لو جُمع كتابا ضخما في كيفية ترجمة هذه الجملة، أو في شكل الحشرة التي تحول إليها البطل، لذلك أصبح كافكا من أكثر الروائيين تأثيرا في الأجيال التي تلته، ويجدر بنا أن نذكر تأثير قصة «المسخ» أو «التحول» ذات السبعين صفحة على رائد الواقعية السحرية وحامل جائزة نوبل غابرييل غارسيا ماركيز، فهو يروي في مذكراته «عشت لأروي» بأنّه استعارَ ذاتَ ليلة كتابا من صاحِبه، لكي يساعدهُ على النوم لكنَّ ما حدثَ هو عكس ذلك تماما، ووصف تأثير الكتاب عليه بقوله «لم أعد قط إلى النوم بالوداعة السابقة»، وكان الكتاب هو «المسخ» لفرانز كافكا، بترجمة بورخيس ويضيف ماركيز «لقد حدّد ذلك الكتاب مسارا جديدا لحياتي منذ السَّطر الأول». كما يجدر بنا أيضا أن نذكر شيوع مصطلح الكافكوية، بما يُشحن به من دلالات الغرابة والعبث والاغتراب، والاصطدام ببيروقراطيات معقّدة وغير منطقية، والشّعور بالاضطهاد من قوى مجهولة. ولكن أن تصل هذه الشهرة والافتتان إلى جيل التك توك والسناب تشات والأنستغرام وأخواتها من بنات السوشيال ميديا، فباعث على التعجب، خاصة حين نلاحظ أن هاشتاغ البوك توك (#BookTok) وهو الوسم المعنيّ بالحديث عن الكتب والترويج لها، تغزوه منذ فترة عروض فيديو واقتباسات وتلخيصات لكتب كافكا وكتاباته، بعد أن كان مسرحا للكتابات التحفيزية وأفكار التنمية البشرية، وكل ما يتعلق بالرومانسيات. فكثير من الشباب أصبح يرى نفسه مثل غريغور سامسا، قد تحول إلى حشرة عملاقة وإن كانت معنوية. ثمّ إن لوباء الكوفيد وما فرضه من عزلة أيضا يدا في تضخيم هذا الإحساس، حين يجد شبابٌ مفعم بالحيوية والطاقة نفسَه محشورا في غرفة لا يفارقها، يضعون له أكله أمام الباب وينصرفون تماما مثل بطل «المسخ»، وهذا ما ذكرته إحدى الكافكاويات وتدعى مارغريتا موكا، وهي في الخامسة والعشرين من عمرها، لكاتبةِ تقرير صحافي نشرته «نيويورك تايمز» في الذكرى المئوية لرحيل كافكا قبل أشهر بعنوان «الحياة اللاحقة لفرانز كافكا على الإنترنت»، وعنوان فرعي أكثر دلالة «بعد مرور مئة عام على وفاته، يُتداول الكاتب التشيكي كمعبود شعبي للاغتراب الرقمي»، تقول موكا بأنها كانت في الثانية والعشرين من عمرها، حين اختارت كتاب «التحول» من على أحد رفوف المكتبات، وعندما قرأته، فوجئت برؤية نفسها في غريغور سامسا، كما فوجئ هو برؤية نفسه كحشرة. وتستطرد موضحة الفكرة «كانت أول مهمة صعبة بالنسبة له هي النهوض من السرير. كثير من الناس في مثل عمري يشعرون بذلك، لقد مررت بالتجربة نفسها أيضا».
وليست كتابات كافكا و»المسخ» تحديدا هي الوحيدة التي تجذب الجيل الجديد إليه فقط، بل حياته نفسها، وقد ذكرت قبل أسطر ما فرضه وباء الكوفيد من عزلة اضطرارية، في حين كان كافكا رجلا انطوائيا لم يتزوج رغم علاقاته النسائية المتعددة، وبقي يعيش في بيت والديه حتى سن الثلاثين، وقد وصف نفسه في رسالته لحبيبته ميلينا قائلا «أنا رخو أزحف على الأرض. أنا صامت طول الوقت، انطوائيٌّ، كئيبٌ، متذمرٌ، أنانيٌّ وسوداويّ، هل ستتحملين حياة الرهبنة، كما أحياها؟ أقضي معظم الوقت محتجزا في غرفتي أو أطوي الأزقَّة وحدي».
ثم إن علاقته الملتبسة والمعقدة بوالده تشبه ما يعانيه الشباب الذين تتضارب رغباتهم مع رغبات الوصاية الأبوية، فوالده كان تاجرا ناجحا متسلطا غير مقتنع بموهبة ابنه، حتى إن كافكا كتب لوالده رسالة يشرح فيها علاقتهما غير السويّة، ولكن الرسالة لم تصل إلى يد والده لأن أم كافكا الخاضعة لزوجها المتسلط رفضت أن تسلمها له، كما جبُن كافكا نفسه أن يسلّمها يدا بيد، ومن جمل الرسالة الأولى نفهم سبب هذا الجبن حين كتب «أبي الحبيب.. لقد سألتني مؤخراً: لماذا أزعم أنني أخاف منك؟ وكالعادة لم أدر بماذا أجيبك. تارة بسبب الخوف الذي يعتريني أمامك، وتارة لأن الكثير من التفاصيل متعلقة بحيثيات ذلك الخوف» أليس هذا عين ما يستشعره كثير من المراهقين أمام أبٍ (دقة قديمة).
وإذا أضفنا إلى هذه الخلطة السحرية المؤلفة من حياة كافكا الفريدة وكتاباته المختلفة، قصةَ حب جميلة تتناقل الفانزات جملا منها مستلّةً من رسائله المئة والخمسين إلى حبيبته ومترجمة كتبه ميلينا جيسينسكا، جاء في إحداها «وأنتِ يا ميلينا لو أحبَّكِ مليون فأنا منهُم، وإذا أحبَّكِ واحدٌ فهذا أنا، وإذا لم يُحبَّكِ أحدٌ فاعلمي حينها أنِّي مُت»، خاصة أن قصة الحب الرومانسية كانت بين عاشق مصاب بمرض السل يستشعر اقتراب أجله، ومعشوقة متزوجة من رجل لا تحبه، ولم يلتق العاشقان طوال سنوات ثلاث سوى مرتين فقط. لذلك نتفهم سر الشغف التيك توكي بهذه القصة والرسائل، ونتفهم أيضا حين تكتب صبية كافكاوية «يا فتيات، لا ترضين أبدا بالحد الأدنى. تذكرن أن فرانز كافكا كتب حرفيا كتابا كاملا من الرسائل إلى حبيبته ميلينا، أنا ببساطة لن أقبل بأقل من ذلك».
قد تكون هذه هي الأسباب الحقيقية لهذا الهوس بحياة كافكا وكتبه عند «الجيل زد» الذي غزا بوسمه منصة التيك توك، وقد يعود الأمر إلى أن هذا الجيل اكتشف في كافكا ما لم نكتشفه نحن الفئران التي تعتاش على الورق، ولعل نبوءة جان بول سارتر صدقت حين شبَّه صاحب رواية «المحاكمة» بـ»قنبلة يدوية في مكتبة»، ثم طرح بعد ذلك سؤاله المستشرف، وكأنه ينظر إلى الغيب بعد أكثر من ستين سنة فكتب: «لمن ينتمي كافكا؟ نحن أم أنتم؟ أو بعبارة أخرى: من يفهمه على أفضل وجه؟».



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد