موت العباقرة في ريعان الشباب
توجد متلازمة عجيبة في هذا الكون؛ قلَّما نسمع عن أفراد متعددي المهارات والمواهب الشخصية والطبيعية بطريقة لا يمكن لأحدهم أن يماريهم فيها. لكن على الرغم من مواهبهم المتعددة، يكونون شديدي التلقائية والعفوية كالأطفال، ولا يعرفون للتكلُّف سبيلاً، بالرغم من الكاريزما الهائلة التي يتمتَّعون بها والتي تجعل حضورهم طاغيًا في أي مكان يحلُّون به. والغريب أنهم لا يستغلُّون هذا لتحقيق مآرب شخصية أو نفعية، فهم مكتفون ذاتيًا ولا يشعرون بالنقص. وعلى النقيض، من يمتلكون ولو حتى مهارة واحدة مما يتمتَّع به هؤلاء بل وتكون بالفعل منقوصة، تجدهم يرسمون حول أنفسهم هالة كبرى لمنحهم شعوراً بالعظمة التي يصدِّقها ويصدِّق عليها أمثالهم من ذوي الفكر المحدود، وكأنَّهم بذلك ينتقمون من القلائل ذوي المواهب الفذَّة ويشبعون رغبتهم المحمومة عندما يشعرونهم بالقهر. وأمَّا العجيب في هذا الأمر، أن متعددي المواهب بالفعل قد يشعرون بالضيق أحيانًا من هؤلاء الحاقدين، لكنهم سرعان ما يتجاهلون حتى وجودهم؛ والسبب أن ما يتمتَّعون به من أفق واسع يمنحهم تحدِّيات أكبر وأسمى من تلك الترهات التي قد تقتنص من عظمة أفكارهم.
ومن أكثر الشخصيات متعددة المواهب شهرة الموسيقار الأعجوبي النمساوي “موتسارت” والشاعر الألماني “شيللر”، وبالرغم من أن كليهما فارق الحياة منذ قرون عدَّة، لكن لا يزال حضورهما طاغيًا على الساحات الفنِّية والأدبية. وفيما يبدو أن هناك علاقة عكسية بين عمر الإنسان ومقدار ما يتمتَّع به من مواهب؛ فبالنظر إلى “موتسارت”، يلاحظ أنه فارق الحياة وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، وأمَّا الشَّاعر “شيللر” فلقد فارق الحياة في سن الخامسة والأربعين فقط.
والأديب الألماني “يوهان كريستوف فريدريش شيللر”Johann Christoph Friedrich Schiller (نوفمبر 1759- مايو 1805) هو علامة بارزة في الأدب الألماني وذو تأثير عظيم على الحركة الأدبية، بالرغم من حياته القصيرة نسبيًا؛ فلقد كان مؤلِّفًا مسرحيًا وشاعرًا وفيلسوفًا، ومؤرِّخًا أيضًا. ألَّف “شيللر” العديد من المسرحيات التي أكسبته على الفور شهرة عالمية، وما زالت تجتذب الجمهور بكثافة حتى الوقت الحاضر. ولهذا، يُطلق عليه لقب “شكسبير ألمانيا”. لكن إسهاماته في الشعر والحركة الأدبية أكبر مما يمكن وصفه بكلمات؛ فهو رائد للحركة الرومانسية، وجميع قصائده تحظى ليس فقط بشهرة عالمية، بل بتأييد من كل الأجيال. ويكفي القول بأن قصيدته الشهيرة “قصيدة الفرح” Ode an die Freude قد أعجب بها الموسيقار “بيتهوفن” وجعل منها ذروة السيمفونية التاسعة. وفضلاً عن هذا، بعد قرنين من الزمان، اتَّخذ منها الاتِّحاد الأوروبي النشيد الوطني له.
وكان “شيللر” أيضًا مفكِّرًا فلسفيًا رائع الفكر وحديث الطرح، وشهدت الفترة 1791-1796 تأليفه لمجموعة من الأعمال الفلسفية التي تهتم بطرح قضايا مهمة تناقش الأخلاق، والميتافيزيقا، وعلم الوجود، والنظرية السياسية، وهذا إلى جانب اهتمام تلك الأعمال بشكل أساسي بالجماليات. وعلى هذا، ساعدت مقالاته في وضع أسس فترة تتميِّز بغزارة الإنتاج الفلسفي في ألمانيا، وأصبحت أحد المصادر والمراجع المهمة للمهتمين بالجماليات والمستفيدين منها، وخاصة ذوي المستوى الرفيع منهم الذين وجدوا فيها السَّبيل لفهم معضلات فلسفية ومصدر الإلهام الذين ينهلون منه.
ولقد انبلج تميُّزه الفكري منذ باكورة حياته لدرجة لفتت نظر دوق “فورتمبرج”، الدوق “كارل أُويجين” Karl Eugen الذي ألحقه بالأكاديمية العسكرية حيثما تلقَّى هناك تعليمًا على نطاق واسع، بما في ذلك الطب، الذي مارسه وهو في العشرين من عمره، بل وأصبح طبيبًا في الجيش عام 1780. لكنه كان يهوى الشعر والأدب، ونشر أوَّل قصيدة له عام 1777، وبعدها بفترة وجيزة بدأ في تأليف المسرحيَّات. وأصبحت أولى مسرحياته “السَّارقون” Die Räuber بمثابة ظاهرة فنِّية أكسبته شهرة عالمية بسبب لغتها الثورية التي لفتت أيضًا انتباه الفرنسيين إبَّان الثورة الفرنسية، لدرجة أنهم منحوا “شيللر” الجنسية الشرفية لفرنسا. وبجانب كل هذا، حصل على درجة الدكتوراه في عمر الخامسة والعشرين فقط، وعلى إثرها عمل بالتدريس الأكاديمي.
وعلى الصعيد الإنساني، كان “شيللر” أشبه بنجوم البوب الذين يسعى الكثيرون لتقليدهم، وخاصة أنه كان يترك العنان لخصلات شعره لتتطاير وتتماوج، فيما يشبه أحدث قصَّات الشعر في عصرنا الحالي. وكانت صداقته العميقة مع الشاعر والأديب “جوته” لافتة جدًا وتحكي قصة صداقة ووفاء أبدية. فلقد كانا يولفان القصائد معاً، وكل منهما يجلس بجوار الآخر ويقومان فوريًا بالتعديل في قصائدهما. واتضح مدى محبتهما كأصدقاء عندما فارق “شيللر” الحياة؛ لقد أصر “جوته” على دفن جثمانيهما متجاورين ولا يزال الوضع هكذا، والمقبرة تتشرف بها ألمانيا لوجود قطبي الأدب بداخلها.
لقد كان “شيللر” مناصرًا للحرِّية التي أساسها الجمال، ويقصد بالجمال هنا الرقي والسمو الأخلاقي، وكان يردد “كن نبيل العقل، فالقلوب وليست آراء الآخرين هي من تصنع الشرف الحقيقي”. ولهذا لم يبال بآراء الآخرين فيه، فكل ما يفعله كان مستحدثًا، أو كما يطلقون عليه في الوقت الحالي “تقليعة”. وإذا انتقده أحدهم لأنه ليس مجرَّد مفكِّر وأديب عبقري، بل أيضًا أستاذ جامعي يجب أن يحيط نفسه بهالة من الوقار، كان ردُّه الجاهز أن العباقرة الحقيقيين هم مجموعة من البلهاء. وكان ينصح أي فرد أن يحقق أحلام طفولته؛ لأنها هي ما تصنع المعنى الحقيقي للإنسان. وبالنسبة له، يجب أن يمتلك الفرد القدرة على أن يخطأ ويحلم؛ لأن المعاني العميقة تكمن في اللعب الطفولي؛ ولذلك يقول: “إن الإنسان لا يلعب إلا عندما يكون إنساناً بكل معنى الكلمة، ولا يكون إنساناً كاملاً إلا عندما يلعب”.
لقد كانت آراؤه وأقواله مثيرة للجدل وغريبة في الوقت نفسه، لجرأتها وخروجها عن الشكل المألوف للفيلسوف الرصين. ومن الجدير بالذكر أن فلسفته تأثَّرت بآراء الفيلسوف الفرنسي “إيمانويل كانط” لكنها أيضًا أثَّرت في آراء الفيلسوف “فريدريش هيجل”. وأمَّا نيتشه، فلقد وجد فيها الضالة المنشودة التي سمحت له بأن يطلق لآرائه وأفكاره العنان دون خجل أو خوف. فلقد كان لا يأبه “شيللر” بأن يحظى برضا الكثيرين عنه؛ حيث استهدف دومًا القلَّة التي يمكن أن تفهم خلاصة فكره. وكان يرى أن القدرة على إرضاء جميع الأطراف هي أمر شديد السوء، لأن ذلك يعني التنازل عن أشياء كثيرة لنيل تلك الحظوة.
والرائع أن “شيللر” كان ينفِّذ عمليًا كل ما يتفوَّه به، على عكس كثيرين ممن يقولون ما لا يفعلون. فعلى سبيل المثال، بالرغم من مستقبله الواعد ونيله لحظوة الدوق، ترك الجيش من أجل الأدب، وكانت مسرحيته الأولى “السارقون” مسرحية سياسية حققت له شهرة عالمية فور عرضها على المسرح حيثما تزاحم الجمهور على مشاهدتها. لكن بسبب أنها أغضبت الدوق، قرر “شيللر” ترك موطنه وعاش في دوقية أخرى لكي يكتب بكل حرِّية، وإن كان ذلك يعني أنه لن يحظى بتمويل مادي من الدوق يجعله يرفل في رغد العيش كما كان. كان “شيللر” يؤكِّد دومًا أن حريته أسمى وأعظم من أي قيد؛ فالسلسلة المصنوعة من الحديد وكذلك الحبل المصنوع من الحرير الخالص كلاهما قيد يجب التخلُّص منه. ويجب على أي فرد أن يأخذ أحلامه ورغباته وآماله على محمل الجدية والأهمية؛ لأن من يقمعهم يقتل أفضل ما فيه ويصير شخصًا فارغًا.
رفض “شيللر” أن يعيش شخصًا فارغًا وواصل سعيه وراء الحرية بكتاباته الفلسفية العميقة وهو على فراش المرض. وكان تواصله مع ما يسمى بـ “الطفل الداخلي” في أعماق نفسه هو السبيل لعبقريته؛ فلقد حقق “شيللر” ما ينصح به علماء الطب النفسي في العصر الحديث دون توجيه. والرائع أنه يستقي الحكمة من تلك الحقبة؛ حيث له القدرة دومًا على أن يزورها وينقل حكمتها لعالم البالغين. فالمعاني العميقة التي يردد أنه استخلصها من “الحواديت” التي رويت له في مرحلة الطفولة شكَّلت وجدانه وجعلته يبرع في الأدب والفلسفة وجعلت منه علامة فارقة لغزارة إنتاجه الذي فاق عمره القصير. فيما يبدو أن تحقيق العباقرة لكل رسالتهم في وقت قصير تجهز على ما تبقى من أعمارهم.
تفاصيل جديدة عن اغتيال هنية في طهران
انسحاب القوات الإسرائيلية من 3 مناطق في جنوب لبنان
عودة أكثر من 50 ألف سوري إلى وطنهم في 3 أسابيع
نجاة مدير منظمة الصحة العالمية بأعجوبة في اليمن
محمد رمضان يشعل السوشيال ميديا بمسابقة جديدة
أحمد العوضي يشعل الحماس بمسابقة جديدة ويُشكر جمهوره
مقتل إعلامية لبنانية على يد زوجها قبل انتحاره
قصة عائلة حوّلت كهفًا عمره 350 مليون سنة مَعْلمًا سياحيًا
الحمية الخالية من الغلوتين .. هل تناسب الجميع
ضربة لـ تيك توك .. دعوة للاستعداد لحذف التطبيق الصيني
إنطلاق مهرجان ليالي صبحا العربي للثقافة والفنون
نتنياهو: العالم العربي قدم لنا تنازلات
الموسم الحالي ثاني أسوأ موسم مطري مسجل في الأردن
ولي العهد ينشر مقطع فيديو برفقة إبنته الأميرة إيمان
قرار هام من الأمانة بخصوص المسقفات .. تفاصيل
نبات قديم يعزز نمو الشعر ويمنع تساقطه
فصل الكهرباء عن مناطق واسعة بالمملكة الأسبوع القادم .. تفاصيل
هام لطلبة التوجيهي بخصوص الامتحان التكميلي
كتلة هوائية باردة تؤثر على الأردن في هذا الموعد
تخفيضات في المؤسسة الاستهلاكية العسكرية
إعلان صادر عن مديرية الخدمات الطبية الملكية
تفاصيل الحالة الجوية بالتزامن مع دخول مربعانية الشتاء
إحالات إلى التقاعد المبكر في التربية .. أسماء
9 بنوك أردنية ضمن لائحة أقوى 100 مصرف عربي
يارا صبري تلتقي والدها الفنان سليم صبري بعد غياب طويل