يُذَكِّرُني طُلُوْعُ الشَّمْسِ صَخْرَاً

mainThumb

13-11-2024 05:44 PM

قبل مدَّةٍ تَعَرَّضْتُ لبيتِ شعرٍ قالتْهُ الخنساء في رثاء أخيها صخر ، والبيتُ يدور على أمرين : الأول ( أنه صاحبُ غارات على العدو ) ، والثاني : ( أنه صاحب كرمٍ وجود ) ، وقد وضعتُ هذا البيت على صفحتي على ( الفيس بوك ) وطلبتُ من أصدقائي أن يُدْلُوا بدلوهم في تفسير هذا البيت الذي قالتْهُ الخنساء :

يُذَكّرُني طُلُوعُ الشمسِ صَخراً
..... وأذكرُهُ لكلّ غُروبِ شَمْسِ .

فأحببتُ أن أُشير إلى مقصود الخنساء مع ذكرِ بعض الأدلة الخارجية التي تقوي مقصودَها في المدح والثناء على أخيها صخر .

نعلم أن العرب تعلموا فنون الحرب فطرةً وسليقةً لما للبيئة من تأثيرٍ على حياتهم ، فهم قبل الاسلام أهلُ غزوٍ وسلبٍ وغارات ، وهذا يذكرنا بقول الصحابي الجليل عدي بن حاتم الطائي عندما بشَّره الرسول – صلى الله عليه وسلم - :

(بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل فقال يا عدي هل رأيت الحيرة قلت لم أرها وقد أنبئت عنها قال فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله قلت فيما بيني وبين نفسي فأين دعار طيئ الذين قد سعروا البلاد ... ) .

فانظر الى قول عدي بن حاتم : ( فأين دُعَّار طيء الذين قد سَعَّروا البلاد ) ! الدعار جمع داعر وهو بمهملتين وهو الشاطر الخبيث المفسد ، وأصله عود داعر إذا كان كثير الدخان قال الجواليقي : والعامة تقوله بالذال المعجمة فكأنهم ذهبوا به إلى معنى الفزع والمعروف الأول والمراد قطاع الطريق .

وطيئ قبيلة مشهورة ، منها عدي بن حاتم المذكور ، وبلادهم ما بين العراق والحجاز ، وكانوا يقطعون الطريق على من مر عليهم بغير جواز ، ولذلك تَعَجَّبَ عديٌّ كيف تَمُرُّ المرأةُ عليهم ، وهي غير خائفة .

( قد سعروا البلاد ) ، أي : أوقدوا نار الفتنة ، أي ملئوا الأرض شرا وفسادا ، وهو مستعار من استعار النار وهو توقدها .

هذه هي العربُ قبل الاسلام ؛ قاتلٌ أو مقتول ، سالبٌ أو مسلوب ...

فمن هذه الأجواء اكتسب العربي فنونَ الحرب لم يتلقَّها في جامعة أو كلية حربية بل حياتُهُ كلها كليةٌ حربية من الطِّراز الأوَّلِ .

ومن هذه الفنون الحربية الغارةُ وقت الصباح ، ففي هذا الوقت يكون المُغارُ عليهم على غير استعداد سواءً نفسياً أو مادِّيَّا ، فإن المغيرَ في الوقت يجد حاجتَه على أكمل وجهٍ .

فلذلك تجد أن أعداء الله يهود أخذوا هذا الفن عن العرب فلا يُغيرون بطائراتهم على أهلنا في غزة إلا وقت الصباح .

وقال تعالى : ( فساء صباحُ المُنْذَرين ) .

وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يومَ خيبر : ( خَرِبَتْ خَيْبَرُ إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ ، فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ) .

فالصباحُ مرتبطٌ بوقت الغارة عند العرب للأسباب التي ذكرناها آنفا ، وقد ذكر الله - عزَّوجل – ذلك عند ذكر الخيل : ( فالمغيرات صُبْحا ) ، فوقتُ غارة الخيل عند العرب وقت الصباح .

فرثاء الخنساء لأخيها صخر ، جاء أنَّه صاحبُ غارة وقت الصباح أو أنه يدفعُ غارات الأعداء عليهم وقت الصباح ، أما وقت غروب الشمس فهو وقت طروق الأضياف ، فهو نَحَّارٌ الكوماءَ لهم ومشعلُ النيران تحت القدور .

قال الربيعُ بن زيادالعبسي يرثي مالكا :

مَنْ كان مسرورا بمقتلِ مالكٍ
..... فَلْيَأَتِ نسوتَنا بوجهِ نَهارِ

يَجِدِ النساءَ حواسرا يَنْدُبْنَهُ
..... قد قُمْنَ قبل تَبَلُّجِ الأسحار .

قال بعضُ الشُّراح : ( يعني يندبنه في ذلك الوقت ؛ وإنما خصَّه بالندبة ؛ لأنه وقتُ الغارةِ . يقولُ : فهنَّ يذكُرْنَهُ حينئذٍ لأنه من الأوقات التي ينهضُ فيها للحربِ والغارات ، قال تعالى : فالمغيرات صبحا ، وأما قولُ الخنساء :

يذكِّرني طلوعُ الشمس صخرا
..... وأذكرُه لكل غروب شمسِ .

فإنما ذكرتْه عند طلوع الشمس للغارة ، وعند غروبها للضيف ) .

ومن الأشياء التي تنقدحُ في خَلَدي ساعةَ هذه الكتابة ؛ أن التذكير في بيت الخنساء جاء على شكلين :

الأول : طلوعُ الشمس هو الذي يذكِّرُها صخرا أخاها فجاء ( يذكِّرُني ) ؛ لأن هذا الوقت يكون الانسان فيه بقايا الوسنِ والنعاس ، فالذي يذكره شيءٌ خارجي .

والثاني : أنها هي التي تتذكر بنفسها عند غروب الشمس فجاء الفعل ( أذكره ) لأن الانسان يكون هو المتذكر !

ولهذا اختارت العرب هذا الوقت للغارة ، لأن الاستعداد والحيطة من قبل المغار عليهم تكون شِبْهَ معدومة !

قال امرؤالقيس :

ألا عِمْ صباحاً أيُّها الطللُ البالي
..... وهل يعمن من كان في العصر الخالي .

وقال عنترة :

يَا دَارَ عَبْلـةَ بِالجَواءِ تَكَلَّمِـي
..... وَعِمِّي صَبَاحاً دَارَ عبْلةَ واسلَمِي .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد