بين صناديق الاقتراع وأكفان الأحلام

mainThumb

07-11-2024 05:17 AM

في يوم الانتخابات الأمريكية، كان العالم كله يجلس على طرف الكرسي بترقب. هنا في الشرق الأوسط، المشهد ليس أقل إثارة، وإن كان أكثر تسلية من الناحية السوداوية.
فجأة، تفتح صفحات وسائل التواصل الاجتماعي وتجد صوراً مثيرة للجدل: صورة عريضة تجمع المرشحين للرئاسة الأمريكية، ولأسباب معروفة، كتب أحدهم تعليقاً أسفلها يقول: «اليوم الانتخابات الأمريكية إما فوز «أبو لهب» أو فوز «حمالة الحطب»! كأن التاريخ يعيد نفسه، لكن هذه المرة في واشنطن وليس مكة.
وبينما يُدلي الشعب الأمريكي بأصواته في صناديق الاقتراع، نجد مشهداً كوميدياً على الجانب الآخر من العالم. ثلاثة رجال عرب، في حارة ضيقة في أحد أحياء الشرق الأوسط، جالسون على الأرض، يُقشرون البزر بمهارة تجعلهم مرشحين لميدالية أولمبية رياضية، ويتابعون بثاً مباشراً للانتخابات الأمريكية. هم لا يهتمون فعلاً بسياسة أو اقتصاد أمريكا.. كل ما في الأمر أنهم يتساءلون «يا ترى من فيهم رح يفوز؟ ومن اللي رح يفجر منطقتنا أول؟ قد يبدو الأمر عبثياً، لكن الحقيقة هي أن الانتخابات هناك والقلوب هنا معلقة.
الحماس يبلغ أوجه بين المرشحين – وكأننا في سباق خيول من القرن العشرين، كل طرف يتباهى بأفضل تقنيات الضغط على الأزرار. نعم، الضغط على الأزرار! وفي تلك اللحظة، على بُعد آلاف الكيلومترات، يقرر جندي إسرائيلي أن يدخل على الخط، فيضغط على زر بكل ثقة، لتنفجر عشرات المنازل الجنوبية في ضغطة واحدة.
وهنا، وسط هذا العرض الناري، نجد جمهوراً آخر، من جنود الاحتلال الإسرائيلي، متابعاً للانتخابات ومتحمساً جداً، يهتف، يصفق، كأننا في نهائي كأس العالم.
وفي الوقت الذي نتابع فيه هذه المشاهد السوريالية، تتصاعد فيه النار والهتافات والتصفيق: «هذا هو الفوز الحقيقي!» كل ذلك بفضل أحدث التقنيات الأمريكية في تكنولوجيا «الدمار الذكي».
نعم، إنها ليست انتخابات فحسب، إنها مباراة على الهواء مباشرة في فنون «الهدم الفوري».
وبينما يواصل الثلاثي العربي تقشير البزر وتحليل النتائج، يهمس أحدهم قائلاً، «ما رأيكم؟ لو فاز «أبو لهب» نشتري بيتزا، ولو فازت «حمالة الحطب» نطلب كبسة؟» يضحكون ويضحكون ثم يبكون قليلاً.. هم يعلمون أن لا شيء سيتغير في منطقتنا مهما كانت النتيجة، لكن على الأقل سيكون لديهم عذر إضافي للتسلية.
وفي نهاية النقاش الحماسي حول البيتزا والكبسة، وبعد أن تذكروا أن جيوبهم خاوية مثل صناديق اقتراع حارتهم، قرروا اللجوء إلى خيالهم الخصب. بحماسة طفولية، أمسك أحدهم بقطعة حجر ورسم على الأرض دائرة وقال: «هذه البيتزا التي سنأكلها احتفالاً بالنتائج»! وبدأ بتقسيمها إلى ثلاث قطع متساوية، كأنه يقسم كنزاً من الزمن الجميل.
لكن قبل أن يمد أحدهم يده الخالية إلى أول «قطعة بيتزا» وهمية، وإذا بصوت مدوٍّ يأتي من بعيد: انتظروا هذه لنا لا تأكلوها أيها المفاجيع.. ظهر جنود الاحتلال فجأة، ونزلوا بسرعة البرق، وبدون سابق إنذار، استولوا على الرسمة الأرضية بكل احتراف، وهم يتأملون القطع وكأنها غنيمة حرب ثمينة. نظر الثلاثي العربي إلى بعضهم بدهشة، أحدهم همس: «حتى بيتزا التراب أخذوها؟»!
ضحكوا من سخرية الموقف.. هم يعلمون أن حتى خيالاتهم البسيطة لا تسلم. لينتهي الأمر بهم جالسين حول دائرة فارغة على الأرض، ينظرون إلى الفراغ ويقهقهون بسخرية.. قال أحدهم: «ما رأيكم أن نرسمها من جديد؟ لنرَ ماذا سيفعلون هذه المرة»!
وفي نهاية اليوم، يذهب الجميع إلى النوم بالسؤال الأبدي نفسه: من سيكون عراب الفوضى القادم؟

دفء المقابر: رائحة الأمهات

في مكانٍ آخر، بعيداً عن ضجيج الانتخابات وبعيداً عن قهقهات الرجال الثلاثة، يرقد طفل صغير كل ليلة بجوار قبر أمه. كلما أغمض عينيه، شعر وكأنه ينام في حضنها، ينسج من برودة التراب دفء الأمومة. إنه ينام بسلامٍ مؤقت، لا يعرف تماماً ما الذي أخذ أمه، ولا يدرك كيف خطفها العدو بأسلحة مُصدّرة من الغرب أو من أمريكا، تلك التي تُعلن مبادئ الحرية والديمقراطية، بينما ترسل في الخفاء صناديق الموت المتطورة.
هذا الطفل، الذي فقد أمه قبل أن يعرف حتى معنى الفقد، لم يسمع شيئاً عن «أبي لهب» أو «حمالة الحطب»، ولم يفهم بعد ما معنى الانتخابات. لكن بطريقة ما، يعرف أن في تلك البلاد البعيدة، يُصوّت الناس ليقرروا من سيكون القائد القادم، ذلك الذي سيحمل مفاتيح الدمار، الذي يقتل فيها الأحلام البسيطة. يعرف، بدون أن يدري، أن الموت الذي أخذ أمه لم يكن إلا واحداً من ملايين الأزرار التي تُضغط بعيداً، هناك، على بعد آلاف الأميال.
قبض الطفل على حفنة من التراب بجوار قبر أمه، حاول أن يستمد من برودة الأرض شيئاً من دفئها المفقود. كان يعرف أنها لن تجيب، لكنه همس بصوت خافت: «تصبحي على خير، ماما». وجلس ينتظر منها أن ترد.
ركض في خياله إلى حضنها، اختبأ في أمانها، ابتسم تحت ضوء القمر الباهت. في هذا العالم الصغير الذي بناه في خياله، كل شيء على ما يرام؛ والدته على قيد الحياة، والأرض حوله خالية من الدمار. في هذا الحلم، يعيش حياة لم يكن ليحصل عليها في الواقع، حياة مليئة بالحب والأمان.
لكن حتى في أحلامه، تدوي صفارات الإنذار، وتتشقق الصورة المثالية، ليعود إلى واقعه القاسي، وحيداً في هذا العالم الذي يتلاعب به الأقوياء على بُعد آلاف الأميال. تنهمر دموعه بهدوء، ويغمض عينيه مجدداً، يُصلي دون كلمات، يُصلي فقط أن يأتي يومٌ يتوقف فيه العالم عن قتله وقتل رفاقه الصغار.

كاتبة لبنانيّة



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد