.. في مصحّة عقلية كبيرة

mainThumb
من غلاف الطبعة الثالثة لرواية "أعدائي" لممدوح عدوان

22-10-2024 09:38 PM


تعيدُ وسائلُ التّواصل الاجتماعيّ تذكيري بما كتبتُهُ قبل عام، يومَ كنّا نظنّ حتى نهاياتِ أكتوبر الماضي، أنّ الاحتلال لن يستطيع إبادة غزّة بهذه الوحشيّة، وأنّ «السّماء ستنطبقُ على الأرض» من هولِ ما يجري، لكنْ ها نحنُ بعدَ عامٍ كامل «نتفرّج» على الإبادة، واستطالاتها في لبنان، البلدُ العربيُّ (المستقل) والذي تقصفُ عاصمته ويُخلى سكانُها ويصدِّرُ الاحتلال نفس أكاذيبه حول مستشفيات غزّة إلى مستشفياتها. لقد كانَ عامًا ثقيلًا لم نتعلّم منه شيئًا، فالجميعُ ما زالَ يظنُّ أنّه بمعزلٍ عمّا يجري، وأنّ الأمم المتّحدة ما زالَ يمكنُ مخاطبتها، وأنّ للمجتمع الدّوليّ قانون، فيما «بلينكن» يعيد التّجول في الشّرق الأوسط دونَ أن يكونَ في جعبته سوى المزيد من الدّعم المطلق لدولةٍ محتلّة مختلّة، أمّا الدول الأوروبيّة فقد تساوى يمينُها ويسارُها في تأييدِ الإبادة، وإنْ كانَ لألمانيا يدُ السّبق، بوصفها دولةً تنحازُ انحيازًا (فطريًا)؛ بحكم التاريخ والتّجارب، للإباد(ات) الجماعيّة، ولديها نزعات ذات مَرَد «نازي»، لتأييد كلِّ إبادة تحصل، خاصّة تأييد الإبادة الجماعيّة التي تقوم بها دولة الاحتلال، ليسَ من باب «التكفير والغفران» داخل الذاكرة الألمانيّة الغارقة حدّ الهوس بالهولوكوست، بل من باب النّزوع نحوَ الشيء، في ظلِّ «مكارثيّة» جديدة لها تهمة واحدة جاهزة: «معاداة السّاميّة»، فألمانيا التي اعتبرت وزيرة خارجيتها أنّ قتل المدنيين شيء عاديّ هي أوّل من قام بإبادةٍ جماعيّة في القرن العشرين، واسألوا ناميبيا.
والآن، انتقل الاحتلال عمليًا من الإبادة الجماعيّة العشوائية إلى الإبادة المنظّمة والتّطهير العرقيّ، إنّه يمسح شمال غزّة بكلّ من فيه عن وجه الجغرافيا. تُدين البيانات خجلًا بعد أن تستيقظ وزارات الخارجيّة وربما لم تعُد تُدين، ونبكي قليلًا بيننا وبين أنفسنا ثمّ نذهب لنبحث عن مقهى هادئ، ويصرخ النّاس عبر الكاميرات ويصبحون أخبارًا عاجلة ومقاطع من وثائقيات مستقبلًا حولَ «شكلِ الألم».
إنّه الجنون بعينه هذا الذي يحصل.. وإنّنا لم نعد نستطيع «بطولة الحفاظ على عقولنا» يا عبد الرحمن منيف، إنّنا في مصحّة عقلية كبيرة.. يقودها مجانين ويصفق لهم مجانين ويَعِدُ المرضى بالعلاج مجانين، إنّنا في مصحة عقلية كبيرة فيها مصحّات صغار وسجون وعَنابر ورؤساء ووزارات، وإنّنا جموع من الحمقى المُقسَّمين والمتعادين والمفصومين والمهمّشين، نقتِّل ونقسِّم أنفسنا. ليس لدينا رفاهية التوقُّف ولا شغف الإكمال ولا بطولة أنّنا حاولنا أن نكون بشرًا. كلّ هذا العالم كذبة سخيفة وواهية وفقاعة جنون.. وإنّ موت الإنسان أسهل من تنفُّسه.. وها نحنُ بعقول ناقصة وقلوب مثل الحجارة ووجود عبثي وعاجز ننتظر ببلاهة ما سيأتي، ثمّة من ينتظر الفناء ثمّة من ينتظر معجزة.. ثمّة من لا ينتظر شيئًا.
كلام بلا فائدة هذا.. من شخص بلا فائدة إلى قراء بلا فائدة أيضًا، وهكذا تدور هذه المصحة العقلية التي تسمى العالم وهكذا يموتُ الناس على الهواء مباشرة.
إنّنا الآن، نعيشُ على «أملِ» أنْ نموت، وأنْ تكونَ اللحظة (الراهنة) هي الأخيرة. نعيشُ على «أملِ» أنْ يكونَ قريبًا فناءُ هذه الأرض، (أو أنّني/ إنّني على الأقل)، أنْ تكونَ قريبةً جدًا نهاية هذا الذّل المزمِن، والحقد (البشريّ) المهول، ضدّ الأصدقاء والأعداء على حدٍّ سواء، وهذا الاستبداد والقمع والتّزييف والجنون (الإنسانيّ). ورغمَ أنّنا نسعى وراءها إلّا أنّ الأشياء كلّها بلا قيمة، إنّه البشريّ «يحسِّنُ» ظروفَ سجنه الوحشيّ والموحِشِ بالتّوحش أكثر. مساءُ الخير يا «ممدوح عدوان».. وأنتَ تكتبُ عن «حيونة الإنسان».. ثمّ تفطن: "نتواطأ مع جنسنا البشريّ؛ لكي نظلمَ الوحوش".



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد