ما هو علم اللسانيات في اللغة العربية

mainThumb
علم اللسانيات

14-10-2024 03:54 PM

السوسنة- رغم الفروق الكبيرة في الظروف التاريخية والثقافية بين المناهج اللغوية في العالم العربي والغربي، إلا أن المقارنة بين أساليب علماء اللغة العرب، مثل سيبويه، ونظرائهم في الغرب لم تعد غريبة. يعود ذلك إلى أن هذه المقارنات ترتكز على تحليل لغات تنتمي لأسر لغوية مختلفة، ومع ذلك تظهر تشابهات واضحة في الاتجاهات والنظريات اللغوية التي طرحها كلا الطرفين. يمكن رؤية هذا التشابه بشكل خاص عند مقارنة أفكار سيبويه مع تلك التي قدمها كبار علماء اللغة الغربيين مثل دي سوسير، مالينوفسكي، بلومفيلد، فتكنشتاين، هابرماس، أوستين وغيرهم.وذلك كما يأتي:

1.بين سيبويه ودي سوسير
لقد كان ما وصل إليه دي سوسير عبر كتابه هو أن تكون دراسة اللغة والتعبيرات لشعب معيّن ضمن نظامهم اللغوي الخاص، فلا وجود لتعبيرات هذا الشعب إلا في تقابلها مع الكلمات التي ارتبطت بها، فاستطاع بذلك أن يخرج الدرس الصوتي من التصورات الفلسفية التي كانت سائدة سابقًا. لقد نصّ على ضرورة الابتعاد عن المنهج الزماني في دراسة اللغة، واتباع المنهج التزامني الذي يبحث في التقنيات والطرائق التي يتحدث بها الناس في مجتمع لغوي محدّد في وقت معيّن. وهكذا، يكون ما جاء به دي سوسير قد سبقه إليه سيبويه وأقرانه النحاة منذ أكثر من اثني عشر قرنًا. كانت نظريتهم اللغوية تقوم على اللغة المسموعة من الشخص مباشرةً، إذ وضعوا لهذه اللغة شروطًا زمانية ومكانية لصحة الأخذ بها. فقد ذكر سيبويه أهمية دراسة بعض التراكيب العربية من خلال مقارنتها بتراكيب أخرى مستعملة لدى العرب، فجعل المنطق العام والسليقة الفطرية للناطقين الأصليين هي مقياس الصحة، حتى وإن صحّت الكلمة قواعديًّا.

2.بين سيبويه وبلومفيلد
إن بلومفيلد هو من أشهر أعلام اللغة وأكثرهم تأثيرًا بهذا العلم. وأما المذهب الذي تبنّاه فهو المذهب السلوكي، والذي يقوم على اكتشاف ما سيفعله الشخص عندما يرى شخصًا معيّنًا أو في موقف معيّن، فبهذه الطريقة يمكن التنبؤ بالاستجابة. سبقه في ذلك سيبويه، فقد صوّر كثيرًا من الأحداث الكلامية التي نتجت عن مثيرات لغوية وغير لغوية، ومثال ذلك: رؤية الحاج "مكةَ واللهِ"، رؤية رجل يضرب أو يقتل أو يشتم "زيدًا"، رؤية رجل يكاد يرتطم بالحائط: "رأسك والحائط".

3.بين سيبويه وتشومسكي
يلتقي سيبويه وتشومسكي في كثير من النقاط، ولا سيما ظواهر التحويل كالحذف والتقديم والتأخير والزيادة وغير ذلك. ومما يتفقان فيه أيضًا الجانب النفسي في بناء التراكيب، فهو المسؤول عن تركيب الكلام بما ينتج به من أخطاء وتقديم وتأخير وغير ذلك. وهذا ما يُرى عند سيبويه في حديثه عن بدل النسيان أو الغلط حين يستدرك المتكلم خطأه فيعمد إلى تصحيحه أو حتى الإضراب عنه.

4.بين سيبويه ومالينوفسكي
يرى مالينوفسكي أن فهم اللغة لا بد له من علوم أخرى كعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا؛ إذ لا بد من فهم المجتمع الذي يتكلم اللغة وفهم خصائصه للتمكن من فهم اللغة. وقد نص على ذلك سيبويه من خلال بعض ما جاء به في كتبه. من ذلك عدم تسمية الأسد باسم، لأن الأسد لا يقطن مع الناس فلا يحتاجون إلى ندائه أو تخصيصه باسم معيّن. وهكذا، فقد كانت هناك كثيرٌ من المبادئ التي ظهرت في أشهر الدراسات اللغوية قد ظهرت عند سيبويه سابقًا، مما يعطي العرب أفضليّة في نشأة مبكّرة للسانيّات. من هنا، يمكن القول إن نشأة اللسانيات بمفهومها الحقيقي قد بدأت عند العرب منذ عهد سيبويه ولكنهم لم يعرفوها بهذا الاسم.

اللسانيات العربية والغربية: التأثر والتأثير
لقد تمكنت اللسانيات الغربية من تأسيس علم اللغة الحديث الذي اعتمد على ما جاء به علماء اللغة من قواعد ومناهج معينة في الدراسات اللغوية. فقد كان هذا الحراك العلمي في مجال اللغة مرافقًا للنهضة العلمية التي طالت العصر، فاستفاد المفكرون من ملامح هذه النهضة وأسسوا بالاعتماد عليها علم اللغة الحديث. اللغة العربية لم تبق بمعزل عن هذه التغييرات، بل إنها تأثرت بما جاء في هذه الدراسات والمناهج. ولعل أولى إرهاصات الفكر اللساني الغربي التي ظهرت على الفكر اللساني العربي هي:

1.نظرية التغير اللغوي: تنص جميع الاتجاهات اللسانية على أن اللغات والأنظمة اللغوية متغيرة، فلكل زمن لغته الخاصة به، ولا يمكن دراسة لغة بعيدًا عن عصرها الذي نشأت فيه؛ لأن ذلك يساعد في تحديد التراكيب اللغوية ومظاهرها الفونولوجية والمرفولوجية.

2.نظرية المكوّنات الداخلية للّغة: وهي وجهة نظر راسك، الذي وصف تراكيب اللغة بالتنقل بين البساطة واليسر والتحول من الظواهر المتصرفة إلى الظواهر الفاصلة.

3.نظرية الشهرة والاستعمال: إن الغلبة والسبق للغة يكون بحسب شهرتها وكثرة استخدامها.

4.نظرية السيكولوجية: رأى أصحاب هذا المذهب أن اللغة تخضع للنفس الإنسانية، ولا يمكن النظر للغة بمعزل عن النفس.

5.نظرية الاختيار والمناسبة: والتي تقوم على الدراسة الصوتية للغة.

6.نظرية اللغات الغالبة: يرى أنصار هذه النظرية أن سيادة اللغة يعود إلى كثرة استعمالها وتنحي اللغات الأخرى أمامها.

7.نظرية الوحدة اللغوية: التي تهدف إلى تحديد جذور واحدة تمتد إليها جميع اللغات.

8.نظرية الأمواج: إن اللغات تنتشر وتتسع بعيدًا عن منشئها، وكلما ابتعدت أكثر حصل تغييرٌ واختلافٌ أكبر عن اللغة الأصلية.

9.نظرية تكوين وتسهيل النطق: ويرى أنصار هذه النظرية أن هناك عوامل داخلية قديمة تسهم في إحداث التغيير الصوتي.

10.النظرية الفيزيولوجية: يرى أنصار هذه النظرية أن التغيير الصوتي يعود إلى تغير سمات الإنسان عبر الزمن.

النظرية الرياضية: تنص هذه النظرية على أن كل ما يتعلق باللغة من الناحية الصوتية أو التركيبية له أسس علمية شأنه شأن العلوم الباقية.

11النظرية الاجتماعية: يرون أصحاب هذه النظرية أن المجتمع هو العامل الأساسي في تكوين اللغة.

أهمية اللسانيات للدرس اللغوي العربي
يشكل الدرس اللغوي ركنًا أساسيًا من مكونات وحدة اللغة العربية، ويشكل الرابط بين "النص الوظيفي" الذي يتمثل بالنصوص الشعرية أو النثرية التي تؤدي المعاني المختلفة، وبين "التعبير والإنشاء". فيتمكن الكاتب من إنشاء نص صحيح سليم القواعد، مراعيًا فيه حسن التعبير باستخدام الألفاظ المناسبة لمعانيها المناسبة. تهدف هذه الدراسات أيضًا إلى الحفاظ على اللغة العربية الفصحى وتعلمها تعلمًا سليمًا، فاللغة تشكل الوعاء للفكر، وبواسطتها يتم التواصل بين الناس، وإن ضابط هذه اللغة هو علم اللسانيات الذي يصححها ويقومها ويقيمها.

الفرق بين اللسانيات وعلوم اللغة العربية
إن الفرق بين اللسانيات وعلوم اللغة يمكن تلخيصه في عدة نقاط، من أبرزها:

1.علم اللسانيات هو علم أوروبي حديث، نشأ منذ قرن تقريبًا، بينما علوم اللغة العربية قديمة النشأة، فقد ظهرت في القرن الثاني للهجرة على يد علماء اللغة العربية كالخليل وسيبويه والمبرد وغيرهم.

2.علم اللسانيات علم عالمي، يهدف إلى تنسيق وترتيب وإخضاع كل لغات العالم إلى مجموعة من التصنيفات، وإخضاع لغات العالم كافة إلى مجموعة من القوانين تحكمها وتتحكم بها. بينما علوم اللغة العربية تتصل باللغة العربية فقط؛ لذا تداخلت هذه العلوم مع التفسير والإعجاز والقراءات وغير ذلك.

3.علم اللسانيات قد توقف البحث فيه وانتهى حينما توصل علماء اللسانيات إلى مجموعة من القواعد التي استخلصوها من دراستهم، وسلّموا بها على أنها قواعد قطعية حاكمة للغات. بينما قواعد اللغة العربية لم تتوقف في مكان معين، بل أخذت تتطور بتطور ما يحيط بها.

4.علم اللسانيات يعنى بجميع ما يصدر عن الناس من كلام، سواء أكان هذا الكلام فصيحًا أم غير فصيح. بينما تُعنى علوم اللغة العربية بما هو فصيح من الكلام فقط؛ ولذا نجد العديد من المؤلفات التي تدور حول الأخطاء الشائعة وردّ العامي إلى الفصيح.

5.اللسانيات لها فروع تطبيقية كثيرة، يحكم كل فرع من هذه الفروع قواعد معينة، كاللسانيات التاريخية واللسانيات الاجتماعية وغيرها. بينما يحكم اللغة العربية مجموعة من الظواهر اللغوية ضمن الأطر التطبيقية أو الأدبية فتطبق عليها جميعها.

6.الدراسات اللسانية استطاعت الكشف عن الأصول التاريخية للغة العربية، ووصفتها بالسامية، كما اكتشفت ما يتصل بها من اللغات الأخرى التي تعود أصولها إليها. بينما علوم اللغة العربية لم تهتم بذلك، فلم تتوفر لها وسائل البحث والتنقيب المناسبة.

7.علم اللسانيات لا يرتبط بتراث أو قوم أو دين، لأنه علم عالمي لا يختص بمكان معين. أما علوم اللغة العربية فتخص قومًا معينين، وترتبط بقرآنهم الذي هو أصل لغتهم.

علماء اللسانيات العرب
من أبرز علماء اللسانيات العرب:

1.عبد الرحمن أيوب: ولد عام 1919م وتوفي عام 2013م، أصدر كتاب "دراسات نقدية في النحو العربي" وطّد من خلاله للنظريات اللسانية الحديثة، وكان له دور كبير في توجيه الدراسات نحو اتباع المناهج الغربية كالمنهج الوصفي.

2.كمال بشر: ولد عام 1921م وتوفي عام 2015م، تأثر الدكتور كمال بشر بالمناهج الغربية، وكان من المهتمين بالتأصيل للنظرية اللسانية الحديثة من التراث اللغوي العربي، وقد ألف كتابًا اسمه "دراسات في علم اللغة" عام 1969م.

3.تمّام حسّان: ولد عام 1918م وتوفي عام 2011م، من أشهر اللغويين العرب، وقد أثرى الساحة اللغوية بأهم الأعمال والدراسات اللغوية. وقد كانت نقطة انطلاقه نحو التوجه التحليلي هي في كتابه "مناهج البحث في اللغة" الذي صدر عام 1958م.

كتب عن اللسانيات العربية
من أبرز الكتب التي تبحث في اللسانيات العربية:

1.اللسانيات التطبيقية
للمؤلف شارل بوتون، حيث يبحث هذا الكتاب في تطبيق اللسانيات على جوانب مختلفة من النشاطات، ابتداءً من ممارسة الكلام ووصولًا إلى إضفاء الطابع العلمي على ميادين ازدواجية اللغة والترجمة وتعليم اللسان واكتسابه.

2.اللسانيات: النشأة والتطور
لأحمد مؤمن، يبحث هذا الكتاب في تاريخ ظهور اللسانيات والأصول الأولى لهذا العلم وصولًا بها إلى اللسانيات الحديثة.

3.اللسانيات العامة وقضايا العربية
لمؤلفه مصطفى حركات، يبحث هذا الكتاب في المفاهيم العامة التي تدور حول اللغة، ويؤصل موضوع الدراسات اللسانية ويحدد حقيقة المؤلفات التي تبحث في اللسانيات وكيف ينبغي أن يكون النهج الذي ينبغي السير وفقه. ثم يدخل في بعض القضايا المتعلقة باللسانيات ولا سيما بعض الدراسات النحوية.

اقرأ المزيد عن:






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد