« محمود درويش» في الخيمة المحاصَرة!

mainThumb

14-10-2024 12:12 AM


«رأس طفل هذه الكتلة أم قطعة فحم؟/جسد هذا الذي أشهدُ أم هيكل طين؟/أنحني، أرتق عينين، وأرفو خاصرة/ غير أني عبثاً أستقرئ الخيطَ النحيل/عبثاً أجمع رأساً وذراعين وساقين، لكي/أكتشف الشخصَ القتيلْ»، هكذا لخّص أدونيس في كتاب «الحصار» رؤيته لما جرى في بيروت 1982، يوم اجتيحت وسقطت أول عاصمة عربية. وهو تلخيص لوضع لا يزال يتكرر طبق الأصل بعد اثنين وأربعين سنة. كثيرون كتبوا عن حصار بيروت شهادات وقصائد ويوميات وروايات، كلّ يريد أن يوثّق اللحظة، كما أحسها أو عاشها، وجميعهم أمِلَ أن «تنذكر ما تنعاد» كما يتمنى اللبنانيون عندما يستحضرون حروبهم ومآسيهم.
في ظل ما يحدث اليوم تتوالى على الذاكرة القريبة حصاراتنا المتعددة: العراق، ليبيا، سوريا، لبنان، فلسطين، فقد تعددت البلدان والحصار واحد، حتى يصحّ أن نقول «كلٌّ يبكي على حصاره». ولو عدنا إلى ما تصحّ تسميته بأدب الحصار، لوجدنا كمّاً هائلا من نصوص في مختلف الأنواع الأدبية، وثّقت ما حدث بأساليب مختلفة، وفي أوقات متباينة، فهناك من كتب تحت النار، بل رأى في كتابته نافذة يطلّ منها على الحياة، اختزل هذا المفكر حسين مروّة بجملة «لو لم أكتب أيام الحصار لمتّ قهرا». ومن هذا الصنف كتّاب اليوميات مثل كتاب فواز طرابلسي «عن أمل لا شفاء منه – يوميات حصار بيروت 1982» أو كتاب عالم الاجتماع الفلسطيني جميل هلال «يوميات حصار بيروت صيف عام 1982: الرحيل من الخيمة الأخيرة».
كما نجد من كتب نصوصا استعادية بعد انتهاء الحرب بسنوات، فإن تكون محاصرا في مدينة سماؤها تُمطر قنابل وأرضها تُنبت حرائق حدثٌ لن ينسى، بل يبقى وشما في ذاكرة تراكمت عليها الأوجاع. ويمكننا أن نتخذ من حصار بيروت سنة 1982 نموذجا أصليّا (prototype) لكل الحصارات التي تلته حتى يومنا هذا، ولست على يقين إن كانت بيروت محظوظة (أتحدث هنا من الناحية الأدبية فقط) لأنّ حصارها الأشهر شهدته مجموعة من أهمّ الكتاب والشعراء العرب، يومها كانت ستّ الدنيا كما وصفها نزار، والخيمة والنجمة بالتّوصيف الدرويشي. كان هناك معين بسيسو الذي وثّق تجربة الحصار في كتابه «88 يوما خلف متاريس بيروت» وكتب قصيدة مشتركة مع محمود درويش بعنوان «رسالة إلى جندي إسرائيلي» اعتبرها ياسر عرفات قصيدة القوات المشتركة، وهناك تحت القصف كتب سعدي يوسف قصيدته «مريم تأتي»: «ها نحن، مريمُ، نرسمُ الطرقاتِ في الليلِ الملبّدِ/نقفز مثل عصفورين مذعورين بين قذيفةٍ وقذيفةٍ/ها نحن، مريمُ، نهبط الدرجاتِ نحو الملجأ الليلي/نحصي الطائراتِ مغيرةً/ونقولُ: آمَنّا»، كما كان هناك أيضا الشاعر الأردني أمجد ناصر الذي عاد لاستذكار يومياته البيروتية في كتابه «بيروت صغيرة بحجم راحة اليد.. يوميات من حصار عام 1982» وفيها كتب وكأنه يتنبأ بهذه الأيام البيروتية الحالية، التي نسمعها ونراها على الأخبار: «ضربات إسرائيلية عنيفة ومتواصلة تتجاوز الانتقام. ضراوة وكثافة نيران ترميان إلى الإفناء أو التركيع أكثر من أيّ شيء آخر، هستيريا من الانفجارات، عنفٌ ملحميٌّ في قلب مناطق مأهولة بالسكان». وهكذا هي كتابات الحصار وكأنها تستنسخ بعضها، يتجاور فيها وصف وحشية المحاصِر مع المحاصَر الذي رغم غول الموت المتربص به يرى أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة، جملة محمود درويش الشهيرة التي تحولت شعارا يرفعه الحالمون بغد أفضل.
ومحمود درويش عاش الحصار في بيروت 82 وخلده شعرا ونثرا، بل أصبحت مفردة الحصار تسكن قاموسه الشعري سواء في قصيدة «حالة حصار» أو في مجموعته الشعرية «حصار لمدائح البحر»، أو في مقطعه الشهير «حاصر حصارك لا مفر» الذي خلدته ماجدة الرومي في أغنيتها ذائعة الصيت، وهو من قصيدته التسجيلية «مديح الظل العالي» التي بدأ كتابتها في بيروت أيام الحصار كما يروي صديقه فواز الطرابلسي في مقال له بعنوان «أيام مع محمود درويش في حصار بيروت صيف 1982» يقول فيه: «ذات مرة صعدنا أنا وسعدي يوسف إلى غرفة محمود درويش في فندق الكافالييه بالحمرا، وقرأ علينا أبياتا من «مديح الظل العالي» قيد التأليف: «اقرأ باسم الفدائي الذي خلقَ/من جزمة أفقَ» كم بدت مريرة وصادمة ومتألقة تلك الكلمات حينها».
انتشرت القصيدة الطويلة عبر أشرطة الكاسيت، ثم عبر تسجيل الفيديو عندما ألقاها أمام القيادة الفلسطينية في المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر سنة 1983، قبل أن تصدر في ما بعد في ديوان مفرد. والقصيدة الملحمية كتبت أثناء الحصار، ويومها قرر محمود درويش أن لا يترك بيروت لأنه شاعر وليس مقاتلا، كما أخبر أصدقاءه، ولكن مجزرة صبرا وشاتيلا أكدت له أن الجلاد المتوحش لا يفرق بين حامل قلم وحامل بندقية، بل لا يفرق بين طفل رضيع ومقاتل فـ«أينما وَلَّيْتَ وجهكَ: كلُّ شيء قابلٌ للانفجارِ». وبعيدا عن المواضيع السياسية التي تناولتها القصيدة ما يهمنا فيها وصفه للحصار وأثره عليه كشاعر، رغم صعوبة الفصل بين السياسي والإنساني في القصيدة التي هي في عمقها رثاء لمدينة احتضنت الشاعر وعاش فيها سنوات تعج بالنشاط السياسي والأدبي، لذلك رأى في الحصار والاجتياح مفرقا مفصليا في حياته وحياة شعبه، كتب مرة «أحمل سخطا ومشاعرَ سوداء بعد ما حصل في بيروت، فالاجتياح ليس حدثا عابرا في تاريخ شعبي ولا أمتي».
وفي «مديح الظل العالي» وثق درويش ليوميات الحصار، بل ولأوقاته في اليوم الواحد فوصف شعريا بيروت فجرا وظهرا وعصرا وليلا، بصور ترسم فظاعة الحدث، ففي «بيروت فجراً:/يُطلق البحرُ الرصاصَ على النوافِذ/ يفتح العصفورُ أُغنيةً مبكرةً/ يُطّيرُ جارنا رَفَّ الحمام إلى الدخان/ يموتُ مَنْ لا يستطيع الركض في الطرقات». وتصوّرَ اقتراب الموت اليومي من الإنسان في مدينة استبيحت سماؤها واحترقت أرضها «الطائراتُ تطير من غُرَفٍ مجاورةٍ إلى الحمَّام، فاضطجعي/على درجات هذا السُّلّم الحجريِّ، انتبهي إذا اقتربتْ/شظاياها كثيراً منكِ وارتجفي قليلا». بل تبلغ السخرية المرّة مداها حين يفاجئ الشاعر نفسه متلبسا بالحياة، وكان من المفروض والمنطقي أن يُقتل مثل آلافٍ غيره في حمّام الدم الذي يعيشه كل لحظة، لذلك يشكر الصدف التي حافظت على بقائه «ما زلتُ حيَّاً ألفُ شكرٍ للمصادفةِ السعيدة».
في قصيدة «مديح الظل العالي» إشارة إلى كارثة هيروشيما المدينة اليابانية التي ضربتها أمريكا بقنبلتها الذرية حين يقول «وإن الموتَ يأتينا بكل سلاحه الجويِّ والبريِّ والبحريِّ/مليون انفجار في المدينة/هيروشيما هيروشيما/وحدنا نُصغي إلى رعد الحجارة/هيروشيما». ويعود إلى هذا التشابه بين هيروشيما وبيروت في كتابه النثري «ذاكرة للنسيان» الذي هو سيرة يوم واحد: مكانه بيروت وزمانه يوم من أيام آب/أغسطس 1982، والذي يرى فيه الناقد صبحي الحديدي عمل درويش النثري الأشهر، فهيروشيما حاضرة فيه، لا يريد لحصار بيروت واجتياحها أن يُنسى كما يحاول الأمريكيون محو ذكرى جريمتهم، يسأل درويش مضيفته «ولكن أين هيروشيما؟ قالت: أنت في هيروشيما. قلت: لا أراها، فكيف غطّيتم اسم جسدها بالأزهار؟ ألأن الطيار الأمريكي ضغط على زرّ صغير، ولم ير إلّا سحابة. وحين رأى الصّور، فيما بعد، بكى».
كتب محمود درويش كتابه ذي العنوان الموحي بالتناقض «ذاكرة للنسيان» بعد سنوات من الحصار بنفَس واحد «حبس نفسه لأسبوعين في البيت. أنجز المخطوطة جرّة واحدة وسلّمني إياها» كما ذكر صديقه فواز طرابلسي، وهذا الكتاب تصفية حساب وعلاج نفسي للتخلص من ندوب الحصار في قلبه، صرّح هو نفسه بذلك حين قال مرة «كتبت نصوص «ذاكرة للنسيان» وغاية هذا الكتاب النثريّ التحرّر من أثر بيروت». فالكتاب يوميات أو سيرة ذاتية في يوم طويل أبرز ما فيه القصف المتواصل الذي أفسد على الشاعر حتى أبسط متعه الطبيعية «أريد رائحة القهوة. أريد خمس دقائق.. أريد هدنة لمدة خمس دقائق من أجل القهوة. لم يعد لي من مطلب شخصي غير إعداد فنجان القهوة». يصف التفاصيل الصغيرة التي تصبح أساسية مثل اقتناء جريدة، يستذكر الراحلين مثل قريبه سمير درويش وقد ذكره في «مديح الظل العالي» أيضا، حوارات عبثية وأخرى هذيانية، وتسجيل حَرفي وتأملات فلسفية بلغة عالية الشاعرية، صبها محمود درويش في كتابه كتلة من المشاعر احتبسها طويلا وتفاعلت في وجدانه في إقامته الباريسية، ليحكي عن مدينة لم يكفه توصيف حصارها شعرا ولم يُشْفَ غليله حتى لجأ إلى النثر. فما أوسع الفكرة وما أضيق اللغة حين يكتب شاعر عن مدينة قال عنها يوما في قصيدة تحمل اسمها: «وأرحل عن شوارعها / وأقول: ناري لا تموت/ على البنايات الحمام/ على بقاياها السلام/ شكرا لبيروت الضباب/ شكرا لبيروت الخراب».

(القدس العربي)



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد