استدعاء عميحاي إلى غزّة

mainThumb

07-10-2024 11:12 PM


مستوطنة المطلّة، المحاذية للحدود اللبنانية، اعتادت إقامة مهرجان شعر سنوي، أو بالأحرى حين لا تكون بلدة أشباح خالية من معظم أو جميع سكانها الـ 1500، بالنظر إلى وجودها على خطّ النار الأوّل مع قذائف الكاتيوشا من مقاتلي المقاومة اللبنانية. وهذه السنة، بالنظر إلى ما أعقب 7 تشرين الأول (أكتوبر) من قواعد مناوشة حدودية، قررت إدارة المهرجان نقله إلى مدينة القدس المحتلة؛ الأمر الذي حرّر بعض الشاعرات والشعراء من ضغوط دينية حاخامية كانت تقيّد القراءات، أيام السبوت مثلاً.
ومن مساوئ الصدف أنّ نقل المهرجان لم يُفقده الموقع التاريخي الذي احتضنه على مدار 27 سنة فقط، بل أفسد على المنظمين فرصة إحياء الذكرى المئوية لولادة يهودا عميحاي (1924 – 2000) شاعر دولة الاحتلال الأشهر محلياً وعالمياً، وصاحب نقلة في الشعر الإسرائيلي كانت الأخطر؛ لأنّ قصيدته نأت، في مقادير ملموسة وعريضة، عن التغنّي بـ”البطولة اليهودية” وشخصية “المقاتل الصباري” إلى هموم الحياة اليومية وهواجس الوجود والعدم. لكنّ محاسن الصدف شاءت، في المقابل، عقد سلسلة من الروابط بين موضوعات شعر عميحاي، وانحطاط دولة الاحتلال إلى درك سحيق من هيمنة تيارات الغلواء في التدين والفاشية والتشدد اليميني والقومي، فضلاً عن التماهي أكثر فأكثر مع منظومات أبارتيدية لم يتجاسر على اعتمادها عتاة العنصريين في جنوب أفريقيا.
بعيداً عن مساوئ المصادفات ومحاسنها، كان إحياء مئوية عميحاي بمثابة تذكرة جديدة، ضمن سياقات تذكير لا تُطوى واحدة منها حتى تُفتح أخرى مماثلة أو أشدّ؛ بمفارقات شخصية إسرائيلية قياسية أو تكاد، لأسرة يهودية ألمانية هاجرت إلى فلسطين واستقرت في مستوطنة بتاح تكفا، قبل أن تنتقل إلى القدس حيث الإقامة تحيل الاستيطان إلى مصادرة للتاريخ والماضي والحاضر والمستقبل، وحيث استيهامات التوراة الأكثر زيفاً وبطلاناً تشحذ المخيّلة والضمائر والعقول والأبصار على حدّ سواء. وهكذا، لم تكن مصادفة أنّ الفتى عميحاي تطوّع في جيش الانتداب البريطاني، وخدم في مصر، وساعد على تسهيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وانضمّ إلى ميليشيات البالماخ منذ تأسيسها في سنة 1941، وقاتل في الجيش الإسرائيلي خلال العدوان الثلاثي على مصر وحرب تشرين 1973.
الجوانب الأخرى من شخصية عميحاي، ذات الصلة بالشعر على وجه التحديد، ظلت تشير إلى شاعر متمكن رفيع الأدوات، جسور في تنويع الأغراض وتطويع الأشكال، منفرد في تفعيل لغة الحياة اليومية ونبش شعريات مدهشة من خبايا العامية. وهذه، وسواها من السمات الريادية المبكرة، طبعت مجموعته الأولى “الآن وفي أيام أُخرى”، 1955، التي كانت محطة انعطاف كرّسته رائداً ضمن ما سيُعتبر “ثورة محكية” في الشعر الإسرائيلي. ومن المعروف أنّ محمود درويش كان يثمّن شعر عميحاي ويعتبره شاعر العبرية الأبرز، وذاك تقدير بادله إياه الأخير في مناسبات شتى.
صحيح كذلك، أنه حمل رؤية إنسانية نسبية للفلسطيني، ووقّع مع عاموس إيلون وأ. ب. يهوشواع وعاموس عوز رسالة مفتوحة نُشرت في صحيفة “نيويورك تايمز” سنة 1988، تنطوي على انتقاد (واضح، رغم استحياء لا يخفى) للسياسات الإسرائيلية في قمع الانتفاضة الأولى. إلا أنّ الكتلة الأكبر من شعر عميحاي تتناول مدينة القدس من منظار استيطاني وتوراتي، لا تخفى في ثناياه أنساق صريحة من أفكار صهاينة تأسيس الكيان، مثل قادته وجنرالاته اللاحقين. ولم يكن غريباً أنّ إسحق رابين اختار عميحاي لتمثيل الشعر خلال حفل استلام جائزة نوبل للسلام، سنة 1994؛ فألقى قصيدته “فليشفق الله على أطفال الحضانة”، المنقوشة اليوم على أحد جدران مركز رابين في تل أبيب.
وهذه سطور تلحّ، خاصة، على قصيدة عميحاي “سيّاح”، التي تبدأ بسطر مباغت يقول: “كلّ ما يأتينا منهم هي زيارات العزاء”، ثمّ تستعرض مواقع مثل النصب التذكاري للهولولكوست، وحائط المبكى، وقبّة راحيل، وقبر هرتزل، وتلّة الذخيرة… وضولاً إلى إقفال المقطع بنبرة سخرية من هؤلاء المعزّين الذين لن يتوقفوا عن الضحك خلف الستائر الثقيلة في غرف فنادقهم. المقطع الثاني صاعق أكثر، لجهة التهكم اللاذع على حال دولة الاحتلال مع التاريخ والتذكار؛ إذْ يكتب عميحاي: “ذات يوم جلست أستريح على الدرج المحاذي لبوّابة برج داود، ووضعت جانباً سلّتَيّ الثقيلتين. وكانت مجموعة من السيّاح تتحلق حول دليلها، فوجدت أنني أصبحت نقطة علّام بالنسبة إلى ذلك الدليل: ‘أترون ذلك الرجل الذي يتوسط سلّتين؟ أعلى رأسه، وإلى اليمين قليلاً، يوجد قوس من العهد الروماني. إلى اليمين من رأسه تماماً’. وهتف السيّاح بضيق: ‘ولكنه يتحرك كثيراً’. وقلت في نفسي: لن يأتي الخلاص إلا حين يقول الدليل: أترون ذلك القوس من العهد الروماني؟ ليس القوس مهماً، ولكن إلى الأسفل واليسار قليلاً يجلس رجل اشترى لأسرته سلّتين من الفواكه والخضار”.
والحال أنّ الشاعر/ نقطة العلّام هذا لا يُنقل اليوم من المطلة إلى القدس المحتلة فقط، بل يُستدعى إلى حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة والبربرية ضدّ جنوب لبنان؛ وكأنّ نبوءته عن أيام الاحتلال الأخرى، لا تكفّ عن الدوران حول ذاتها، هابطة حثيثاً نحو سياقات التوحش الدموي الأقصى.

 

(القدس العربي)



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد