سرفانْتِس مطلوب حيّاً… وميتاً

mainThumb

02-10-2024 01:04 AM


في مثل هذه الأيام، ولد الكاتب الإسباني العالمي ميغيل دي سيرفانتس، في 29 سبتمبر 1547، الروائي الذي أحدث ضجة كبيرة في الأنواع الأدبية. فله يرجع الفضل في ميلاد جنس الرواية الذي يكتسح اليوم العالم كله. ومن يتأمل مسار حياة الرجل سيلاحظ أن للأقدار أثرها العميق. لم تكن الظروف المحيطة به تؤهله لهذه الوظيفة الاستثنائية. فقد كان عسكرياً متحمساً للمسيحية ونشرها وخوض الحرب المقدسة ضد المسلمين الذين احتلوا إسبانيا أكثر من ثمانية قرون ونصف. لا شيء كان يهمه إلا خوض هذه المعارك والاستشهاد فيها. كان مغامراً كبيراً وكان يمكن أن يموت كأي جندي في الميدان، وينتهي أمره ولن نسمع به وينتهي اسمه في أحسن الأحوال على عتبات شاهدة قبر، ينسى مع الزمن. فقد شارك في موقعة ليبوانتو التي خسر فيها ذراعه اليسرى حيث أطلق عليه اسم «المانشو» (مقصوص الذراع) ولم يكن عمره قد تجاوز وقتها 24 سنة. في 26 سبتمبر 1575، في طريق عودته إلى إسبانيا، ألقى بحارة الجزائر القبض في عرض البحر واقتادوه إلى الجزائر العاصمة وزج في سجن الرهائن. وبقي هناك حتى 1580، حتى تمت فديته من طرف التثليثيين ويعود على إسبانيا. والغريب في الأمر أن سجنه وتحوله إلى رهينة هو ما أنقذه من موت حتمي في الحروب الدينية التي أكلت الآلاف إن لم نقل الملايين. عندما جيء به إلى سوق العبيد لم يكن أحد يعرفه، إذ يكن يساوي الشيء الكثير سوى كونه جندياً قطعت ذراعه في معركة ليبوانتو. لم يكن صيداً مربحاً، من العائلات الغنية التي يمكن طلب فدية كبيرة لتسريحها، حتى جيء به إلى آغا الجزائر حسن فينيزيانو، الذي اهتم به وأدخله ضمن حاشيته وجعله يتمتع بحرية كبيرة.
فقد نشأت بينهما علاقة مثيرة للشبهة. بعدها عرفت قيمته المادية، فطلب من أهله دفع فدية كان أخوه وسيطاً في العملية. وعندما حاول الهرب إلى وهران التي كانت محتلة من طرف الإسبان، جيء به إلى حسن آغا الذي قتل الجميع الذين رافقوه في عملية الهروب بينما نجا هو بأعجوبة وبتدخل مباشر من الآغا. المغارة التي اختفى فيها ما تزال موجودة إلى اليوم وتسمى مغارة سيرفانتس، شاهد حقيقي على مرور الرجل عبر هذا الطريق الذي كان في النهاية، بلا إدارة منه، خلاصه. المغارة ما تزال موجودة حتى اليوم. قبل مدة قصيرة، زرتها، في مرتفعات الجزائر العاصمة، ما تزال شاهداً حياً على إرادة الحياة والحرية لدى سيرفانتس.
بها اختفى الكاتب رفقة مجموعة من أصدقائه من الرهائن الإسبان الذين كانوا يحلمون بالهرب إلى وهران التي كانت تحت الهيمنة الإسبانية، وكان سيرفانتس قد زارها من قبل. لكن الإنكشاريين تفطنوا لمخططهم، فشنقوهم كلهم. وحسن آغا أو حسن فينسيانو، حاكم الجزائر وقتها، وافق على مرسوم الإعدام إلا سيرفانتس، فقد نفذ من عيون الشبكة لقربه المريب من حسن فينيسيانو، إضافة لكون رأسه كان يساوي دوقات ذهبية كثيرة.
وظل في قصر الآغا إلى أن اشتراه المسيحيون التثليثيون بما تبقى لهم من مال، قبل أن ينقله معه الآغا الذي كان يستعد للمغادرة. على الرغم من كونها شاهداً حياً على عبور شخصية تاريخية عظيمة على الجزائر فإنها ظلت زمناً طويلاً مهملة.
وبعد احتجاجات كثيرة، على مدار سنوات متتالية من طرف الكثير من المثقفين، قبلت وزارة الثقافة وقتها ترميم هذا المعلم الإنساني لكاتب استثنائي، شاء القدر أن تكون الجزائر حاضرة فيه. فقد دون الكثير من ملاحظاته التي ستعطي لاحقاً رواية [دون كيخوتي] ومجموعته القصصية المميزة: [قصص نموذجية]، التي كانت للجزائر فيها مساحة واسعة، تشكل بانوراما حية للحياة العاصمية في ذلك الوقت، إضافة إلى كتابه «سجون الجزائر العاصمة».
فقد خص الجزائر في روايته الشهيرة بثلاثة فصول طويلة رسم فيها جزءاً من حياته وحياة الجزائريين في القرن السادس عشر، كما صور مقدار الحرية التي كان يتمتع بها والتسامح الديني الذي شمله، على غير ما كانت تدعيه المؤسسة الدينية المسيحية الرسمية وقتها. فقد كان يتمتع بوضع استثنائي. لهذا نقول دائما، وإن كان الاعتقال والشجن شيئاً ممجوجاً لمثقف بقيمة سيرفانتس فإن الأقدار تصنع الأشياء وتمنح بعض المتفردين من سلطانها. فقد ظل محمياً حماية كلية. مثلما كانت حياته سلسلة مغامرات اشتركت فيها خياراته والأقدار، لم تكن وفاته أقل إشكالاً.
قبره ليس دقيقاً، فقد بني على فرضيات قريبة للمنطق ولكنها ليست حقيقية. لم تكن علاقته جيدة مع الكنيسة منذ عودته من الجزائر، فقد اتهمته محاكم التفتيش المقدس بوقوعه تحت تأثير الإسلام، من خلال علاقته المشبوهة «المثلية» بآغا الجزائر، حسن فينيزيانو، وإلا كيف نفسر علاقته المميزة مع الآغا لدرجة إنقاذه العديد من المرات من موت محتوم.
لهذا، يفترض الكثيرون أن قبره يوجد في مكان آخر غير المتعارف عليه. مدينة مدريد، وفي خطوة غير مسبوقة، خصصت ميزانية كبيرة للبحث عن رفات سيرفانتس الذي توفي في 23 أفريل من سنة 1616. الكثير من المختصين رفضوا أن يكون المكان المتعارف عليه هو قبره الحقيقي. التحريات بينت أنه يفترض أن يكون مدفوناً في أحد الأديرة الذي تم تحديده، لا يقع تحت سلطة محاكم التفتيش المقدس، بعد أن تعرّض لكثير من المضايقات من طرفها، والتشكيك في نسبه، بسبب تعاطفه مع الموريسكيين الذين طردوا من إسبانيا، إذ عاش مرحلة الطرد الأخيرة عن قرب التي تمت في 1609. وكان عليه أن يحضر وثيقة نقاء الدم التي تثبت أنه لا يوجد في سلالته العائلية موريسكيون؛ أي مسلمون، أو مارانيون؛ أي يهود. الدراسات التي أخضعت حياة سيرفانتس للبحث وعظام الدين للتحليل تميل نحو فكرة وجود قبره هـــناك. وكما يبدو، فقد ظل سيرفانتس مثال جدل حتى بعد موته. وظلت حكاياته الخرافية تتبعه كما لو أنه أصيب بعدوى دون كيخوتي.

 

(القدس العربي)



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد