إلياس خوري: «باب الشمس» يفتح على فلسطين

mainThumb

23-09-2024 01:45 AM



تجاورتُ مع الروائي الراحل إلياس خوري صبيحة كلّ يوم اثنين لمدة عشر سنوات كاملة على صفحات جريدتنا «القدس العربي» ومع هذا لم أحظ بشرف استضافته في أيٍّ من البرامج التي قدّمتها رغم أننا اتّفقنا على ذلك، لكن للقدر كلمته، إلى أن فجعنا برحيله قبل أسبوع بعد معاناة شديدة مع المرض، وثّقها هو في مقال كتبه على سرير المستشفى ونشره في هذه الصحيفة بعنوان «عام من الألم» يصف فيه ما يعانيه «ينفجر فيّ ألمٌ مضاعف كأنني ارتكبت كل الخطايا وكل الجرائم منذ فجر التاريخ. لا أستطيع أن أصف الألم فهو شعور يضربك كمفاجأة، ثم حين يتخلى عنك للحظات يتركك كأشلاء عاجزة عن الحياة». ووصف معاناته الإعلامي عبده وازن أيضا فكتب «عانى إلياس خوري ما لا يمكن أن يعانيه إنسان، حتى كاد، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، يصبح طيفاً أو ظلاً من شدة ما هزل جسده، تحت وقع الجراحات والآلام». ورغم هذه الآلام الأيّوبية كان متماسكا يلجأ إلى القلم رفيقه الذي صاحبه أكثر من نصف قرن، يكتب مقاله الأسبوعي لـ«القدس العربي» ويراجع مخطوطة رواية جديدة له، مستمدا الأمل من الأصدقاء والمحبين والأطباء المحيطين به، ومستلهما الشجاعة من القضية التي ارتبط بها كتوأم سيامي، وختم بذكرها مقاله فكتب «كيف يفقد الشجاعة من امتزجت تجربته بالتراب منذ بداية المقاومة الفلسطينية؟».

وهذا الارتباط بفلسطين قديم منذ أن توحدا رمزيا بولادته سنة 1948 في عام النكبة، ومن المفارقات أن آخر إصداراته قبل أقل من سنة من وفاته كان عن النكبة الفلسطينية أيضا، حيث كان يراها مسارا مستمرا، بدأت قبل خمسة وسبعين عاما، لكنها لم تتوقف إنما تغير جلدها فقط «من التطهير العرقي إلى نظام الأبارتهايد. فالصهيونية ليست أقلّ من مشروع محوٍ شاملٍ للوجود والهويَّة الفلسطينيَّيْن» لذلك اختار لمقالاته المجموعة في كتاب عنوان «النكبة مستمرة». واستمر بدوره وفيّاً لها منذ التحق وهو دون العشرين من عمره بـ«فتح» يوم كانت في الأردن، وناضل عمليا مع فدائييها حتى جرح وكاد يفقد عينه، فهي تمثل له وهو المسيحي القادم من لبنان مسألة مبدئية لا تقبل المساومة «من لا يلتزم مع فلسطين، لا بد عنده مشكلة في إنسانيته وليس في عروبته» كما كتب مرة.
أُعجَب دائما وأَعجَب بمن يجمعون بين كمّ الإنتاج الثقافي وكيفيته دون أن يتنازلوا عن نوعية ما يكتبون، ويوزّعون قدراتهم الكتابية على أكثر من مجال، وهكذا كان إلياس خوري، عُرف أساسا روائيا، ترك لنا ست عشرة رواية، منها الجزء الأول من ثلاثيته «أولاد الغيتو.. اسمي آدم» التي حصلت على جائزة كتارا للرواية العربية عام 2016، ودخلت القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2017. كما عُرف صحافيا تولى مسؤوليات مجلات وملاحق ثقافية مهمة ابتداء برئاسة تحرير مجلة «شؤون فلسطينية» بالتعاون مع محمود درويش، مرورا بـ»الكرمل» وإدارة تحرير القسم الثقافي في «السفير» ورئاسة تحرير الملحق الثقافي في «النهار» لسنوات طويلة، إضافة إلى عمله الأكاديمي أستاذاً محاضراً في الأدب العربي والدراسات الشرق- أوسطية في الجامعات الأمريكية لأعوام عديدة، بدَفع من المفكر إدوارد سعيد الذي كان يرى في إلياس خوري رائد الرواية العربية الجديدة، بعد نجيب محفوظ في مقال شهير كتبه عنه. وقد يكون اهتمامه بالمسرح هو الجانب المظلوم فيه، رغم أنه شغل منصب المدير الفني لمسرح بيروت، وحرّك مياه المسرح الراكدة مع نضال الأشقر، كما كتب ثلاث مسرحيات، وكان يعمل على مسرحية رابعة وهو على فراش مرضه تحكي عن مدينته بيروت وثورتها الأخيرة وإفلاسها وكيف «بلغت الحضيض بسرعة غير متوقعة».

كان إلياس خوري يرى أن الأدب صوت من لا صوت لهم، خاصة الفلسطينيين الذين يتعرضون لأبشع الممارسات الوحشية منذ ثلاثة أرباع القرن، فسخّر قلمه لنصرتهم، ولعله كان يقصد نفسه حين كتب في روايته أولاد الغيتو «لم يسمع أحد أنين الفلسطينيين الذين كانوا يموتون ويُشرَّدون بصمت، لذا جاء الأدب كي يصنع للضحية لغتها الجديدة». وتجلى ارتباطه بهذه القضية في علامتين فارقتين: روايته الأيقونة «باب الشمس» وصداقته بالشاعر محمود درويش. فحين شرع في كتابة «باب الشمس» المنشورة قبل ربع قرن، كان يخطط لتكون رواية حبّ، وذكر بذلك مرارا بوضوح «وكان برأسي أمر واحد هو أن أكتب قصة حب. كنت أتساءل دائماً، لماذا قصص الحب عند العرب مخترعة وليست حقيقية؟ ولماذا لا أكتب بكل بساطة عن حب رجل لزوجته. وهذا ما كان». فكانت حكاية يونس الأسدي المناضل الفلسطيني، الذي فرّقت النكبة الفلسطينية بينه وبين زوجته نهيلة، لكنه كان يقطع الجبال والوديان لسنوات عديدة متسللا من لبنان إلى فلسطين ليلتقي بزوجته في مغارة سماها «باب الشمس» أثمر لقاؤهما خلال هذه الأعوام الطويلة عن سبعة أولاد رمزا لاستمرارية شعب أرادت له الآلة الصهيونية ولا تزال تريد، أن يباد. وهكذا تناسلت من رواية حب بين زوج يعيش في مخيم شاتيلا وزوجة تعيش في الجليل حكايات الشتات الفلسطيني، ما جعل من رواية «باب الشمس» تأريخا أدبيا للنكبة لخّص أهميتها الشاعر الأردني الراحل أمجد ناصر بقوله «كان الفلسطينيون ينتظرون عملا يسدّ ثغرة في رواية النكبة الفلسطينية، ولم يقيّض لهم ذلك إلا مع صدور رواية باب الشمس».

لاقت الرواية رواجا كبيرا فترجمت إلى أكثر من 15 لغة، وحازت جائزة فلسطين الكبرى واقتُبست في فيلم من إخراج يسري نصر الله سنة 2004، لكن أكبر جوائزها حين شيّد 300 شاب وشابة من فلسطين مخيّما بين القدس والضفة الغربية احتجاجا على عمليات الإخلاء القسري وبناء المستوطنات، وأطلقوا على مخيمهم الذي أخلاه الجيش الإسرائيلي بالقوة اسم «قرية باب الشمس» يومها كتب لهم إلياس خوري رسالة مفتوحة على صفحته في فيسبوك خاطبهم فيها «لن أقول يا ليتني كنت معكم، فأنا معكم.. أراكم وأرى كيف صار الحلم على أيديكم حقيقة منغرسة في الأرض. (على هذه الأرض ما يستحق الحياة) كما كتب محمود درويش، لأنكم عندما بنيتم قريتكم الرائعة أعدتم المعنى إلى المعنى، وصرتم أبناء هذه الأرض وأسيادها».
وذِكرُ محمود درويش في الرسالة يحيلنا إلى العلامة الفارقة الثانية في ارتباط إلياس خوري بفلسطين قضية وشعبا، فقد جمعته صداقة حميمة بمحمود درويش، بدأت أثناء عملهما معا في مركز الأبحاث الفلسطيني سنة 1972 ولم تنته إلا بوفاة درويش في رحلة علاجه الأمريكية سنة 2008. عملا معا في «مجلة شؤون فلسطينية» بين عامي 75 و79 وأسسا معا مجلة «الكرمل» وكان إلياس خوري يرى في محمود درويش «مدرسة أدبية وفكرية وشخصية، أعاد معه اكتشاف فلسطين، وتكحّل حبره بعبق الجليل» وإضافة إلى حضور أشعار محمود درويش في روايات إلياس خوري، وخاصة في ثلاثيته «أولاد الغيتو» كتب عن صديقه عدة دراسات ومقالات، كما شارك في كتاب جماعي عنه بعنوان «محمود درويش الشاعر، الإنسان، الحب» صدر في حياة الشاعر. ورغم هذا الحضور الدائم لدرويش عند إلياس خوري فقد كتب في تأبين متأخر له «لم نرثِ محمود درويش مثلما يليق به وبنا، وإنما حوّلناه إلى أيقونة وضريح».
وظل هذا الارتباط بمحمود درويش قائما حتى بعد وفاة صديقه، فقد شارك في حصر مقتنيات بيت محمود درويش وكُلّف بالإشراف على نشر آخر دواوينه الذي اختاروا له عنوان «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي» الصادر عن دار رياض الريس في الذكرى السنوية الأولى لرحيل محمود درويش، مصحوبا بكرّاس كتبه إلياس خوري بعنوان «محمود درويش وحكاية الديوان الأخير» يروي فيه قصة العثور على القصائد التي جمعت في ذلك ديوان، وقد أسال نشر المجموعة الشعرية يومها كثيرا من الحبر للأخطاء التي وردت فيها. وآخر ارتباط بين اسمَيْ الشاعر والروائي كان حين فاز إلياس خوري بجائزة محمود درويش للإبداع والثقافة في دورتها السابعة عام 2016 وقد تبرع بقيمتها يومذاك لجامعة بيرزيت.
تماهى إلياس خوري مع القضية الفلسطينية، حتى ظنّ كثيرون أنه فلسطيني وليس لبنانيا، وشاءت الأقدار أن يرحل والشعب الفلسطيني يتعرضّ للإبادة، فكتب قبل شهرين بالتمام من رحيله حاملا معه مفتاح باب الشمس: «غزة وفلسطين تُضربان بشكل وحشي منذ ما يقارب العام أيضاً، وهما صامدتان لا تتزحزحان. إنهما النموذج الذي أتعلم منه كل يوم حبّ الحياة».

 

 

(القدس العربي)



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد