الجراح والحسبان يكتبان : اليرموك والمشروع الوطني .. تخطيط مقصود أم صدفة عابرة

mainThumb
شعار جامعة اليرموك

22-09-2024 01:51 PM

أ. د عبدالحكيم الحسبان
أ.د. رشيد الجراح

وكأن أزمات الإقليم السياسية والاقتصادية التي تلقي بظلالها الثقيلة على العاملين في جامعة اليرموك كغيرهم من أبناء الوطن الواحد، مضافا اليها أزماتهم المعيشية كأقرانهم في الجامعات الرسمية الأخرى، لم تكن تكفي حتى يدخل الأكاديميون في اليرموك وحدهم اليوم متاهة جديدة تتمثل بنسخة معدّلة عن نظام الهيئة التدريسية في جامعة اليرموك. فمشروع النظام المقترح منظور الآن لدى رئاسة الوزراء للمصادقة عليه وإقراره بعد أن مرّ - دون علم من القاعدة المستهدفة - بمعظم مراحل إقراره قانونيا، ليكتسب الصفة القانونية، ويصبح نافذًا حكمًا.
تأتي صدمة الأكاديمين في الجامعة من النظام - بنسخته المقترحة - من حجم التعديلات التي أحدثت، والتي تنتزع عنوة كثيرًا من الحقوق والامتيازات التي سبق لمن خطت أيديهم تلك التعديلات أن تمتعوا بها عقودا من الزمن. وبالمقابل، لم يأت النظام - بنسخته المقترحة - بأي امتياز جديد في مقابل ما تم الاجهاض عليه. والأكثر غرابة من كل ذلك أن النظام - بنسخته المقترحة - لم يعالج المشاكل التي أقر بها المسئولون أنفسهم وجودها في النظام السابق، والتي قطعت الإدارات السابقة الوعود على نفسها بمعالجتها في أي تعديل قادم للنظام. وبالمحصلة، فإنه لم يتمخض عن إداراة الجامعة التي تقدمت بالنظام المقترح (والتي ما انفكت تروج على العلن أهدافها بالتطوير والتحسين) إلا مشروع قانون كهذا، لا يخلق لدى الأكاديمين في اليرموك على وجه التحديد إلا شعورا بالاستهداف، ويكأن إدارة الجامعة - يقول لسان حالهم - تقصد أن تبقي الجامعة في دائرة الأزمة التي لن تفضي في نهاية المطاف إلا إلى الاختناق وربما الموت لاحقا. والمراقب للحال في اليرموك بات يعلم يقينا بأن شعورا بالمظلومية قد أصبح يسيطر على معظم العاملين في الجامعة. ليكون السؤال المطروح هو: كيف وصلت اليرموك لهذا الحال بعد عقود من الزمن؟
صدرت الإرادة الملكية السامية بتأسيس جامعة اليرموك في منتصف سبعينيات القرن المنصرم، لتكون اليرموك هي الجامعة الأردنية الثانية التي جري تدشينها في الوطن، وتحديدا في مدينة إربد التي كانت حينئذ مركز المحافظة الأكبر جغرافيا على مستوى البلاد، فقد كانت محافظة إربد تمتد إداريا حينها من نقطة التقاء الحدود الأردنية الفلسطينية مع الحدود السورية غربا إلى الحدود مع العراق شرقا.
لم يكن قرار إنشاء جامعة اليرموك مجرد تفصيل صغير أو حدث عادي على صعيد شمال البلاد، وإنما كان اللبنة الثانية في مدماك بناء صرح التعليم العالي في البلاد بعد أن كانت دمشق وبيروت وبغداد والقاهرة هي مزارات من ينشد التعليم العالي من أبناء الوطن. فإنشاء اليرموك هو مشروع وطني كبير، استطاع أن يحدث تحولات جذرية في بنية البلاد اقتصاديا، واجتماعيا، وسياسيا. وربما لا نبالغ إن قلنا أن إنشاء الجامعات في البلاد، وخصوصا الجامعات الاولى - الأردنية واليرموك- كان جزءا من عجلة التحولات على مستوى بنية الاقتصاد الاقليمي الممتد من دول الخليج حتى فلسطين والأردن.
ولكي نفهم القيمة السوقية - بالمفردات الاقتصادية - لتأسيس جامعة اليرموك في إربد مقارنة مع تلك للجامعة الأردنية في العاصمة عمان، فلا بد من الإشارة إلى أن نشأت الجامعة الاردنية في العاصمة عمان قد بدأت والمدينة - كعاصمة للدولة - تشهد تحولات حضرية منذ بداية القرن المنصرم، تعززت مع تأسيس إمارة شرق الأردن، وترافقت مع زخم من موجات الهجرات اليها، نقلت خزانا كبيرا من القوى العاملة، وغيرت الديموغرافيا الحضرية للعاصمة عمان، لتواكب مثيلاتها من المدن الحضارية المجاورة التي كانت تعج بالنشاطات الاقتصادية. لكن - بالمقابل - جاء إنشاء جامعة اليرموك في سياق مختلف تماما، الأمر الذي اعطى الجامعة حتى يومنا هذا صبغة خاصة. وبكلمات بسيطة، قد لا يختلف اثنان بأنه في حين أن الجامعة الاردنية قد أنشئت داخل بيئة ديمغرافية تتركز فيها الكتل البشرية، هي الأعرق مدنية، والأكثر ملاءة مالية، والأعرف بمدينية الحواضر المجاورة كدمشق وبغداد وبيروت والقاهرة والقدس ونابلس وحيفا ويافا، والأقدر على التواصل معها، والاستفادة من خبراتها، جاء انشاء جامعة اليرموك - بالمقابل - في شمال البلاد حيث الاقتصاد ذات الطابع الفلاحي والرعوي، ونزر يسير من الأنشطة الحضرية البسيطة منحصرة في مركز المحافظة. فالغالبية العظمى من القوى العاملة في محافظة إربد كانت تمارس النشاط الفلاحي أو الرعوي مقابل حفنة من سكان مركز المدينة يمارسون تجارة السوق ويمتهنون الحرف البسيطة.
في ظل الظروف الوظيفية والمعيشية للناس في محافظة إربد حينها، مثلت جامعة اليرموك - بمبانيها وقاعات التدريس فيها وأثاث مكاتبها - النقلة الحضارية المعمارية الأكبر في إقليم الشمال برمته. كما مثلت - بطلبتها القادم أكثرهم من خارج محافظة إربد والإقليم - نقلة حضارية اجتماعية في المنطقة. ومثلت أيضا - بكادرها التدريسي والإداري القادم جزء معتبر منه من خارج الاردن حيث كنت ترى السحنة الافريقية والتركية والغربية في قاعات تدريسها - نقلة حداثة نوعية. فساهمت كل تلك النقلات في تثوير المشهد الاجتماعي والاقتصادي والقيمي في جزء كبير من البلاد.
ولا يزال الفارق بين الأردنية واليرموك - كجامعتين رائدتين في بناء صرح التعليم العالي الأردني - قائما حتى اللحظة لصالح اليرموك. فعلى خلاف العاصمة عمان التي تتركز فيها مشاريع اقتصادية وتنموية كثيرة يبلغ حجم كثير منها أضعاف الجامعة الأردنية، ما تزال اليرموك هي المشروع الاقتصادي التنموي الأضخم في شمال البلاد، فحجم جامعة اليرموك كاستثمار - بكل تفاصيله - لا يجاريه مشروع استثماري آخر في إربد وما حولها حتى تخوم عمان من جميع أبوابها. وبكلمات بسيطة نقول: إن جامعة اليرموك هي قلب عملية التنمية في شمال البلاد.
ولأن جامعة اليرموك تبؤأت تلك المكانة في منطقتها الجغرافية، وكانت لها تلك الخصوصية مقارنة بأختها الأردنية حينها، كانت اليرموك هي قبلة الغالبية العظمى من خريجي المدارس في الشمال، وكان التعليم هو أعظم تطلعاتهم، وكان الحصول على شهادة من اليرموك هو أكبر أمانيهم. فقليل منهم من كانت التجارة غايته أو كانت السياسة مقصده. وأصبحت اليرموك هي المحرك لهم على صعيد التنمية الاقتصادية والاجتماعية والقيمية في ذاك الشمال الناشئ. وبالتالي ساهمت اليرموك - على مدى عقود قليلة - في إحداث تحولات جذرية في ثقافة السكان، صبت كل مؤشراتها في تحول واضح من اقتصاد فلاحي ورعوي تقليدي الى مركز حضري مديني، وأصبحت جامعة اليرموك حاضرة في حياة كل إسرة صغيرة وعائلة ممتدة في شمال البلاد. ولعلنا لا نبالغ إن زعمنا القول بأنه ليس هناك حضور لمؤسسة أو استثمار في حياة أهل شمال البلاد بحجم حضور اليرموك منذ أول يوم تأسست فيه إلى يومنا هذا.
ولا يفوت من يرقب المشهد عن كثب أن يدرك بأن التأثيرات البنيوية العميقة التي تركتها الجامعة ما انحصرت يوما على حياة أهل الشمال فقط، فلليرموك تأثير أعمق على الصعيد الوطني وعلى صعيد المنطقة برمتها. فلا يمكن تناسي الدور الذي قام به خريجو اليرموك في اقتصاديات دول الخليج المجاورة وفي تطوير البنى التحتية في تلك البلاد. والجاحد فقط من ينكر مساهمة أبناء اليرموك في رفد خزينة الدولة الأردنية بحوالات مالية هائلة بالعملات الصعبة، عززت اقتصاد الدولة الناشئ.
إن المراد من هذا السرد هو تذكير صاحب القرار من خطورة ما يجري في اليرموك. فنحن ندق ناقوس الخطر من تحويل اليرموك من مؤسسة وطنية رائدة تعنى بانتاج الحلول الاقتصادية والأجتماعية ونحوهما، ومن أداة لخلق مستقبل واعد لأبناء الوطن، إلى ما يشبه رجل التعليم العالي المريض، حيث تفتعل الأزمات، وتختلق الأعذار، فتحصل الاختناقات. ويكفي أن نشير هنا إلى أن نمطا من السياسات المتبعة في الحقبات الأخيرة قد حوّل اليرموك من الجامعة الأكثر قابلية للاستثمار والانتاج إلى الجامعة الأكثر مديونية مقارنة بنظيراتها من الجامعات الاردنية، كما حولتها من الجامعة الأعز مكانة من حيث موقعها الجغرافي في إقليم الشمال إلى الجامعة الاكثر عجزا عن الاستثمار في تلك البنية التحتية الخصبة. فموقع اليرموك الذي لا نجد مثيلا له من حيث الكفاءة الاستثمارية التي ربما لا تضاهيها فيه مؤسسة تعليمية أخرى على طول البلاد من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها لم يعد بؤرة تقدم أو سبب انفراج لها وللعاملين فيها، بل أصبح البؤرة الأكثر احتقانا على صعيد العاملين فيها. ويكفي للتدليل على ما نقول أن نشير إلى كثرة الاعتصامات المطلبية في الجامعة وازدياد وتيرتها في الآونة الأخيرة، كما هي كثرة الشكاوي والتظلمات التي تخرج منها وعنها، خاصة بين أروقة المحاكم. فليس أغرب من أن تسير سياسة الجامعة باتجاه يجبر المنتسبين إليها إلى اللجو إلى أروقة المحاكم للظفر ببعض حقوقهم التي لا يتسع المقام هنا للتعريج عليها، ولكننا سنفرد بحول الله مقالات مفصلة بكل واحدة منها. فالسؤال هو: ما الذي يدفع بأساتذة جامعين أن يقفوا على درج رئاسة الجامعة؟ وكيف بابن اليرموك أن يرفع شكوى في المحاكم ضد أمه؟
السؤال: من الذي يضرب ويعبث بهذا المشروع الوطني؟






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد