وهم الاستمرار

mainThumb

19-09-2024 01:51 AM

في اليابان مثلاً، ودول أوروبية أخرى، ينخفض عدد السكان من سنة إلى أخرى، نتيجة انخفاض معدلات الخصوبة، وتراجع عدد المواليد، وقلة الإقبال على الزواج، ولأن بعض العائلات تكتفي بمولود واحد، بحيث ينجب كل زوجين طفلاً واحداً، في هذه الحالة سيتناقص عدد السكان، ومع استمرار معدلات الوفاة ستبدأ الأعداد بالتقلص بشكل أكبر، ولو افترضنا استمرارية هذه الحالة، وهي غالباً لا تستمر بسبب تنبه الدولة لخطورة الوضع واتخاذها إجراءات وقائية عديدة، ولكن لو افترضنا مثلاً استمراريتها، مع حدوث جائحة كبيرة، أو تعرض البلد لكارثة طبيعية خطيرة، أو دخولها في حرب مدمرة، فإن هذا قد يؤدي إلى تقلص الأعداد وصولاً إلى حافة الانقراض.
ولكن حتى لو افترضنا اختفاء شعب معين من خارطة العالم السكانية، فإن هذا لن يؤدي إلى احتمالية انقراض الجنس البشري، ذلك لأن التعداد العالمي للسكان أكبر بكثير من تعرضه لخطر الانقراض. كان هذا ممكناً في العصور السحيقة، حيث تعرض البشر مرتين لخطر الانقراض، كما انقرضت فعلياً أجناس بشرية كانت تنافس جنس الهومو، مثل النياندرتيال، أما اليوم، حتى لو افترضنا نجاح مؤامرة «المليار الذهبي» فسيبقى العدد كبيراً.. وطبعاً تلك النظرية في منتهى الغباء والسخف ولا وجود لها إلا في عقول البلهاء.
الجنس البشري ممكن أن ينقرض في حالة وصول النيزك، أو نشوب حرب نووية. وغير ذلك فإن البشر باقون على الأرض ما شاء الله لهم البقاء، بمعنى أن انقراض البشر مجرد وهم، ولكنه قد يتحول إلى هاجس واحتمال له أسبابه في حالات محددة جداً.
وفي تاريخ الكرة الأرضية توجد حالات كثيرة جداً تحول فيها الوهم إلى حقيقة.. لعل أشهرها حادثة انقراض الديناصورات، فبعد أن عاشت تلك المخلوقات الضخمة لمدة تزيد على الـ160 مليون عام (عمر الجنس البشري 200 ألف سنة فقط)، وتفردت خلالها بسيادة الأرض وظلت متوهمة أن بقاءها سيدوم للأبد، فكل الخيرات متوفرة بكثرة، والأيام منذ ملايين السنين تشابه بعضها ولا شيء يدعو للقلق، حتى لمع جسم متوهج في الفضاء، وأخذ يكبر ويكبر، ويقترب من الأرض بسرعة شديدة.. حتى الثواني الأخيرة قبل ارتطامه بالأرض كانت الديناصورات متمسكة بوهم الاستمرار، ثم وقعت الكارثة وانقرضت جميعها بلمح البصر، واختفت معها ثلاثة أرباع الكائنات الحية والتي كانت أيضاً تعيش الوهم ذاته.. حدث هذا قبل 65 مليون سنة.
وفي تاريخ البشرية توجد ما لا حصر لها من حالات توهم الاستمرار التي تحولت إلى كارثة، فلدينا العديد من الحضارات القديمة، التي سادت ثم بادت، وتحولت إلى مجرد ذكرى، ولدينا شعوب أبيدت عن بكرة أبيها، وممالك قوية كانت ذات حصون منيعة وجيوش جرارة واليوم بالكاد يذكرها بعض المؤرخين، ولغات تقادمت ثم ماتت، ودول قوية ظهرت ثم اختفت، ومدن كبيرة كانت مزدهرة، هجرها سكانها وصارت مجرد أطلال خربة.
في مصر القديمة تعاقبت ثلاثون أسرة على الحكم، كان كل ملك منهم يظن أن حكم أسرته سيدوم أبد الدهر، إلى أن انتهت تلك الحضارة الممتدة وصارت مزارات سياحية.
في بلاد فارس، ظن كسرى أن حكم سلالته خالد، حتى فر خائباً بعد هزيمته التاريخية بما استطاع حمله من حلي وجواهر، ثم أتى الشاه العام 1971، وأقام حفلاً أسطورياً في ذكرى 2500 سنة من حكم الإمبراطورية الإيرانية، وبعد سنوات قليلة لم يجد أرضاً تقبله، فمات كمداً.. ولم يدان ذلك الحفل سوى الاحتفال الأسطوري لملك إفريقيا الوسطى «بوكاسا» الذي كلف ميزانية الدولة، وأراد منه تكريس نفسه كملك مدى الحياة، وانتهى به الأمر بعد ثلاث سنوات بالنفي ثم السجن.
وكان مروان الثاني آخر خليفة أموي، وقد لقب بالحمار لأنه لم يدرك حجم الثورة العباسية، التي طاردته من بلد إلى آخر حتى قتلته في مصر، وكذلك فعل عبد الله الصغير، حين بكى كالنساء حكماً لم يحافظ عليه كالرجال، وبهزيمته أفل الوجود العربي في الأندلس.
قبل ذلك، وأثناءه، وبعده تعاقب عشرات الخلفاء والسلاطين، ومئات الملوك والرؤساء والزعماء.. كان كل واحد منهم يعيش وهم الاستمرار، وإنه إن مات سيرثه أبناؤه.. وهؤلاء جميعاً انتهوا بمصائر مختلفة.. وأغلبها كارثية.
من عاش قبل ثمانينيات القرن الماضي كان يعتقد جازماً أن الاتحاد السوفياتي سيعمّر طويلاً، ولم يكن أحد يتصور نهايته.. لكنه تفكك في أسابيع قليلة.. في القرن الماضي تبدلت خارطة الدول الأوروبية وتغيرت حدودها ونظمها وأسماؤها عشرات المرات، اختفت دول، وظهرت مكانها دول أخرى، حدث هذا لمعظم دول العالم، ربما مصر من الدول القلائل في التاريخ القديم والحديث التي حافظت على حدودها السياسية كدولة مركزية.. لكنها كانت تذوب ضمن إمبراطوريات أكبر، ثم تنبثق من جديد.. ومع ذلك غيرت لغتها وديانتها ثلاث أو أربع مرات على الأقل.
في عصرنا الراهن، يعيش معظمنا «وهم الاستمرار» معتقداً أن دولاً كبرى ستظل قائمة للأبد، أو لأمد طويل، والمتفائلون يعتقدون أن تلك الدول العظمى ستنتهي عاجلاً أم آجلاً، وستنهار، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، والتي بانتهائها ستنتهي إسرائيل تلقائياً.. أي بعد أن يتغير النظام السياسي الدولي.. لكن علينا ألا نفرط في التفاؤل، ونظن أن التغيير سيكون للأحسن، وأن الحق سينتصر حتماً.. هذا أيضاً مجرد وهم، لأن البقاء للأصلح والأقوى، وليس بالضرورة أن يكون على الجانب الخيّر.
من حَكَم غزة والكثير ممن عاشوا فيها قبل الحرب الإبادية كانوا يظنون أن هذا الوضع السياسي والاجتماعي سيدوم طويلاً، اليوم غزة تدمرت، وأغلب معالمها صارت أطلالاً خربة، وهذا مشهد يدمي الروح ويمزق نياط القلب، لكن شعبنا عصي على الانقراض أو الذوبان، طالما ظل متمسكاً بحقوقه وصامداً فوق أرضه.. لكن البقاء والصمود له مقومات، وإلا سيصبح وهماً، مثل كثير من الأوهام أضعنا أعمارنا ونحن نلهث وراءها.
تنقرض الدول والحضارات حين لا تقدر قوانين الصراع والبقاء، وحين لا ترى الأخطار المحدقة بها، ولا ترى عوامل الانهيار الداخلية، أو تراها ولا تفهمها، أو تفهمها ولا تفعل شيئاً.
مشكلتنا كعرب أننا لا نرى الخطر الحقيقي، ومن يراه لا يفهمه، ومن يفهمه لا يفعل شيئاً. وأخشى أن يكون مصيرنا كالديناصورات.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد