نافذتنا

mainThumb

18-09-2024 11:10 PM

 

أذكر منذ سنوات طويلة، وأيام بداياتي في الكتابة، أن حضرت محاضرة للكاتب الراحل جمال الغيطاني، كانت من ضمن فعاليات معرض الكتاب في الدوحة، الذي كان أيضا في بداياته تلك الأيام. وكان جمال آنذاك مهتما بالترجمة، وإنشاء علاقة بين الأدب العربي، والآداب الغربية، وكان يسافر كثيرا، ويتحدث في ذلك الشأن.
كان عنوان المحاضرة: الأدب العربي نافذتنا على العالم، تحدث فيها عن إمكانية أن يكون الأدب العربي، رسول محبة وسلام لنا، بعيدا عن السياسة والاختلافات الفكرية والعقائدية التي تفرق بين الشعوب، أكثر مما تجمع بينها، وفي سبيل تحقيق ذلك الطموح، لا بد من دعم الترجمة، وإتاحة الفرصة للأدب العربي أن يتهادى خارجيا بلغات شتى، عسى أن يعثر على دربه، ويحقق الغاية من انتشاره.
كان كلاما طيبا، وحقيقة كانت الترجمة آنذاك ما تزال شحيحة، وعدد قليل من النصوص العربية، يترجم للإنكليزية والفرنسية، وربما الإيطالية، والإسبانية، وكانت لغة مثل المقدونية أو البولندية، مغلقة تقريبا، لم تطرقها سوى ثلاثة أو أربعة نصوص، وشعوب تلك البلاد، لا تعرف أصلا من هم العرب، ناهيك عن أدبهم.
كان ثمة مستشرقون مهتمون بالعرب وتراث العرب، وترجم عدد منهم إضافة لمعاني القرآن الكريم، عددا من النصوص التراثية، مثل أشعار المتنبي والبحتري، وأبي تمام، وبدا الاقتراب من الأدب الحداثي مثل الرواية والشعر الحديث، ضربا من المغامرة.
على العكس من ذلك، كانت النصوص الغربية، تترجم بشراسة إلى اللغة العربية، وبعضها يتم دعمه من مؤسسات كبرى، ودول، ونشأت بالفعل أقسام للترجمة في وزارات الثقافة لعدد من الدول، ونتيجة لذلك بتنا نعرف الأدب الغربي واللاتيني، والفارسي، والهندي، معرفة جيدة، وأيضا يتأثر بعضنا بتلك الآداب، أو يحاول الكتابة مثلها. وأعتقد أن هذا الموضوع، أي دعم ترجمة الآداب الأجنبية، ما زال قائما، وحتى القراء في الوطن العربي، تجدهم يركضون خلف الروايات والقصص المترجمة، بينما أعينهم مغمضة عن روايات عربية مهمة، قد تكون أفضل كثيرا من الروايات الأجنبية. كان الغيطاني بلا شك، يحاول أن يقول إننا شبعنا من قراءة الآخر، ولا بد للآخر من قراءتنا، وهذا بالضبط ما نتحدث فيه كلنا، وما نريد قوله كلنا.
بعدد سنوات من تلك المحاضرة، أظن ثمة تقدم ما حدث، أي أن النافذة، التي من المفترض أن تفتح، قد انفتح جزء منها، وبات من المفرح، أن تجد عددا لا بأس به من الروايات والدواوين الشعرية، معروضا في منصات الغرب ومكتباته، جنبا إلى جنب مع آداب ما كنا نحلم بمجاورتها، وذهب كتاب مثل نجيب محفوظ، والطيب صالح، وتوفيق الحكيم، وشعراء مثل محمود درويش وأدونيس، إلى أبعد من ذلك، حيث باتت آدابهم مراجع مهمة، ومواد للدراسات الأدبية في الغرب، وحتى في الأجيال التي أتت بعد ذلك، بات من الممكن تحقيق انتشار لا بأس به، كما فعلت روايات علاء الأسواني، وأعمال لكتاب شباب مثل أحمد سعداوي، وشهد الراوي.
إذن أصبحت النافذة شبه مشرعة، وقطعا ستنفتح كاملة يوما ما، خاصة أن كثيرا من المستشرقين الجدد الآن، يتنقلون في المدن العربية، يستنشقون عادات الشعوب، ولغاتها المحلية، ويحاولون أن يدركوا ما لم تقله الروايات، ثم يسعون للترجمة بعد ذلك، وأذكر أن المترجم البلجيكي اكزافيه لوفان، الذي يترجم بنزاهة وجمال، الأدب السوداني وغيره إلى الفرنسية، قد زار السودان مرة، وتعرف إلى مقرن النيلين، وسوق الناقة، وكافتيريا الأسكلة، وبائعات الشاي في الشوارع المتربة، وصادق كثيرا من الشخصيات التي وردت صفاتها في الروايات السودانية، ثم رجع محملا بالوله السوداني، وترجم لعدد منا، ولا أنسى أبدا، أن اكزافيه، أول من ترجم لي رواية، ووضعني على حافة النافذة التي انفتح لي جزء كبير منها بعد ذلك، أيضا كان سندا كبيرا لزميلي بركة ساكن، صاحب النجاحات الجيدة في اللغة الفرنسية. وفي زيارة لي للخرطوم قبل أن تدمرها الحرب، وجدت صينيين يتحدثون العربية، وبعضهم باللكنة السودانية، أيضا يقرأون الأدب السوداني، ويعرفون «موسم الهجرة إلى الشمال» ووردتني مرة رسالة من واحد منهم قرأ لي نصا باللغة الصينية، وكان حدثا مبهجا لي. ولعل القاهرة، بوصفها مدينة الزخم الإبداعي الكبرى عربيا، وتعج أيضا بالمستشرقين، حيث يقيم بعضهم هناك بصفة دائمة، تاركين أوطانهم ومنخرطين في الثقافة المصرية، وينقلونها إلى لغاتهم أو يزورونها من حين لآخر، للاستزادة من إيحاءاتها الكثيرة. وكان الراحل همفري ديفز، أحد كبار المترجمين للغة الإنكليزية، ونقل أعمالا كثيرة لتلك اللغة، مقيما هناك حتى رحيله.
السؤال: إلى أي مدى وصلت نافذة الغيطاني في انفتاحها الآن، بعد عشرين عاما من تلك المحاضرة؟
بشيء من التفاؤل، نقول إن الأمر لا بأس به، فقد باتت الترجمات مستمرة، خاصة للإنكليزية والفرنسية، وهناك لغات مثل الكردية والفارسية، اهتمت أيضا، وباتت نصوصنا الآن تترجم باستمرار، ويتحدث عنها قراء تلك اللغات ونقادها حديثا مشجعا.
لكن بشيء من التشاؤم، أقول إن الأمر ما زال غير عادل، ولدينا كتاب وشعراء كبار، ويستحقون أن تترجم نصوصهم، لكن ذلك لم يحدث، هناك من مات على سكة الكتابة ولم يترجم له كتاب واحد، ومن حصل على جائزة، أو دخل في قائمة جوائز معروفة، ولم يعبر. بينما نجد كتابا صغارا، وثمة أعمال غير جديرة، لكنها عبرت
النافذة، إذن ما زالت لم تشرع بصورة جيدة.


(القدس العربي)



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد